للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المتقدم ذكرها فان هذا السكر لا ينافى الخطاب لأنه متعرض بنفسه لتغير عقله اختيارا فمناسب أن تجرى عليه الأحكام الشرعية، والدليل على أنه غير مناف للخطاب قول الله عز وجل:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى» (١).

فانهم نهوا أن يقربوا الصلاة وهو سكارى، وهذا الخطاب متوجه اليهم حال السكر فاذا ظهر لك صحة تعلق الخطاب بالسكران فأجر عليه أحكام الصاحى فيثبت طلاقه لزوجته وعتقه لعبيده ويلزمه الاسلام فى حال سكره بمعنى أنه اذا كان كافرا ثم سكر ثم أسلم فى حال السكر ثم شاء أن يرتد بعد الصحو فانه يجبر على الاسلام ترجيحا للاسلام على غيره لأن الاسلام يعلو ولا يعلى عليه أو لو كان مسلما ثم ارتد فى سكره فانه لا يقام عليه حد المرتد لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

وتغير العقل بالسكر شبهة واضحة وعلى الجملة، فجميع الأحكام ثابتة على السكران الذى سبب سكره حرام حتى قيل أنه لو فعل فى سكره فانه لا يقام عليه حد المرتد لأن الحدود فلو زنى وهو سكران أقيم عليه حد الزنا ولو سرق وهو سكران قطعت يده وكذا سائر الحدود.

وقيل لا يقام عليه الحد فى ذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات وهو الصحيح عندى والأول أشهر وأقول أنه ينبغى أن يخرج من جملة ذلك حد الارتداد فيقال ان المرتد فى حال سكره لا يقام عليه حد المرتد وهو القتل لأن السكران لا تمييز معه فيجرى على لسانه ما لم يكن مقصودا له.

وقد رأيناهم ينتظرون بالمرتد ما لا ينتظرون بغيره من أهل الحدود حتى حكى بعضهم اجماع الناس على أن المرتد من الاسلام الى الشرك يستناب قبل القتل.

وفى حكاية هذا الاجماع نظر فانه قد روى عن الحسن البصرى رضى الله تعالى عنه أنه يقتل فى الحال ولا يستتاب، وقال عطاء رضى الله تعالى عنه ان كان مولودا على الاسلام استتيب وان كان أسلم بعد كفر ثم ارتد لم يستتب.

وقال الشافعى رضى الله تعالى عنه فيه ثلاثة أقاويل أحدها التافى به ثلاثا.

والقول الثانى يقتل فى الحال الا أن سأل النظرة، وقال ابن بركة رحمه الله تعالى النظر يوجب أن لا يجب على الامام استتابة ولو كانت الاستتابة واجبة قبل القتل لما يرجى من رجوعه لموجب أن لا يقبل منه استتابة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا لأن الرجاء قبل القتل لما يرجى من رجوعه قائم.

وقال بعض أصحاب الظاهر: يجب على الامام قتل المرتد أول أوقات الامكان لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقتله ولم يجعل لذلك وقتا معلوما، واختار أصحابنا أن يستتاب المرتد قبل أن يقتل.

لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه استتاب مرتدا أربع مرات، وروى أن عمر رضى الله تعالى عنه كتب الى عامله فى رجل تنصر أن استقبه ثلاثا فان أبى عن التوبة فاقتله.

وقال أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه: انه يستتاب ثلاثا فى ثلاثة أسابيع كل أسبوع مرة، وقال سفيان الثورى رضى الله تعالى عنه يستتاب أبدا ولعله يريد بذلك عدم حصر الاستتابة فى عدد مخصوص.


(١) الآية رقم ٤٣ من سورة النساء.