للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والفكر وربما يحمله على ذلك توهمه أن الاسراع براعة والابطاء عجز ولأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل وقد يكون تساهله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة بالتمسك بالشبه طلبا للحرص على من يروم نفعه أو التغليظ‍ على من يروم ضرره قال ابن الصلاح ومن فعل ذلك فقد هان دينه.

قال وأما اذا قصد المفتى واحتسب فى طلب حيلة لا شبهة فيها ولا يجر الى مفسدة ليخلص بها المفتى من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسن جميل.

وقال القرافى: اذا كان فى المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تسهيل فلا ينبغى للمفتى أن يفتى العامة بالتشديد والخواص وولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة فى الدين والتلاعب بالمسلمين وذلك دليل فراغ القلب من تعظيم الله تبارك وتعالى واجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقريب الى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين والحاكم كالمفتى فى هذا.

وفى الفروق للقرافى (١): أن كل شئ أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الاجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلى السالم عن المعارض الراجح ولا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتى به فى دين الله تعالى فان هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه وما لا نقره شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى أن لا نقره شرعا اذا لم يتأكد وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا والفتيا بغير الشرع حرام فالفتيا بهذا الحكم حرام وان كان الامام المجتهد غير عاص به بل شابا عليه لأنه بذل جهده على حسب ما أمر به.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(اذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وان أصاب فله أجران) فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقد مذاهبهم فكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه لكنه قد يقل وقد يكثر غير أنه لا يقدر أن يعلم هذا فى مذهبه الا من عرف القواعد والقياس الجلى والنص الصريح وعدم المعارض لذلك وذلك يعتمد أصول الفقه والتبحر فى الفقه فان القواعد ليست مستوعبة فى أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والفقهاء ولا توجد فى كتب أصول الفقه أصلا وذلك هو الباعث لى على وضع هذا الكتاب لأضبط‍ تلك القواعد بحسب طاقتى ولاعتبار هذا الشرط‍ يحرم على أكثر الناس الفتوى فتأمل ذلك فهو أمر لازم وكذلك كان السلف رضى الله تعالى عنهم متوقفين فى الفتيا توقفا شديدا.

وقال مالك لا ينبغى للعالم أن يفتى حتى يراه الناس أهلا لذلك ويرى هو نفسه أهلا لذلك يريد تثبيت أهلية عند العلماء ويكون هو بيقين مطلعا على ما قاله العلماء فى حقه من الأهلية لأنه قد يظهر من الانسان أمر على ضد ما هو عليه فاذا كان مطلعا على ما وصفه به الناس حصل اليقين فى ذلك وهذا هو شأن الفتيا فى الزمن القديم وأما اليوم فقد انخرق هذا السياج وسهل على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وان يقول أحدهم لا يدرى فلا جرم آل الحال للناس الى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال.

وفى المجموع (٢): قالوا وينبغى أن يكون المفتى ظاهر الورع مشهور بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة وكان مالك رحمه الله تعالى يعمل بما لا يلزمه الناس ويقول لا يكون عالما حتى يعمل فى خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس مما لو تركه لم يأثم وكان يحكى نحوه عن شيخه


(١) انظر الفروق للقرافى ج‍ ٢ ص ١٠٩، ١١٠ وما بعدها الطبعة السابقة.
(٢) انظر المجموع للنووى شرح المهذب ومعه فتح العزيز شرح الوجيز للرافعى ج‍ ١ ص ٤١ وما بعدها طبع مطبعة التضامن الأخوى بمصر.