للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وخاتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتى عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين «قُلْ ١ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ»}.

فكانت فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهى فى وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم اليها ثانية الكتاب الكريم وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما تجد اليها سبيلا وقد أمر الله عباده بالرد اليها حيث يقول سبحانه وتعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٢»}.

ثم قام بالفتوى بعده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأحسنها بيانا وأصدقها ايمانا وأعمها نصيحة وأقربها الى الله تبارك وتعالى وسيلة وكانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط‍ وكما أن الصحابة رضوان الله عليهم سادة الأمة وأئمتها وقادتهم فهم سادات المفتين والعلماء قال الليث عن مجاهد العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال سعيد عن قتادة فى قول الله تبارك وتعالى «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ‍ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ٣» قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر آثارا كثيرة فى فضل الصحابة وعلمهم وآثارهم فى القضاء والافتاء قصد السير فى طريقهم والنسج على منوالهم لم آت بها خشية الاطالة والخروج عن الموضوع والله الموفق والمعين.

ثم قال ابن القيم (٤): قال الامام أحمد فى رواية ابنه صالح عنه ينبغى للرجل اذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن الكريم عالما بالأسانيد الصحيحة عالما بالسنن وانما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها.

وقال فى رواية ابنه عبد الله اذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة والتابعين فلا يجوز أن يعمل بما شاء ويتخير فيقضى به ويعمل به حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به فيكون يعمل على أمر صحيح وقال فى رواية الحرث لا يجوز الافتاء الا لرجل عالم بالكتاب والسنة.

وقال فى رواية حنبل: ينبغى لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم والا فلا يفتى. وقال محمد ابن عبد الله المناوى: سمعت رجلا يسأل أحمد اذا حفظ‍ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها؟ قال لا قال: فمائتى ألف قال لا قال: فثلثمائة ألف قال لا قال فأربعمائة ألف قال بيده هكذا وحرك يده، قال أبو الحسين وسألت جدى محمد بن عبيد الله قلت فكم كان يحفظ‍ أحمد بن حنبل رضى الله تعالى عنه قال أخذ عن ستمائة ألف قال أبو حفص:

قال لى أبو اسحاق لما جلست فى جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة فقال لى رجل فأنت هو ذا لا تحفظ‍ هذا المقدار حتى تفنى الناس فقلت له عفاك الله اذ كنت لا احفظ‍ هذا المقدار فانى هو ذا أفتى الناس بقول من كان يحفظ‍ هذا المقدار وأكثر منه.

فقال القاضى أبو يعلى ظاهر هذا الكلام أنه لا يكون من أهل الاجتهاد اذا لم يحفظ‍ من الحديث هذا القدر الكثير الذى ذكره وهذا محمول على الاحتياط‍ والتغليظ‍ فى الفتوى ثم ذكر حكاية أبى اسحاق لما جلس فى جامع المنصور قال وليس


(١) الآية رقم ٨٦ من سورة ص.
(٢) الآية رقم ٥٩ من سورة النساء
(٣) الآية رقم ٦ من سورة سبأ.
(٤) انظر اعلام الموقعين عن رب العالمين ج‍ ١ ص ٤٩ وما بعدها الطبعة السابقة.