للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا الكلام من أبى اسحاق مما يقتضى أنه كان يقلد أحمد فيما يفتى به لأنه قد نص فى بعض تعاليقه على كتاب العلل على الدلالة على منع الفتوى بغير علم لقول الله تبارك وتعالى «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ١»}.

ثم ذكر أقوال العلماء فى فتوى المقلد وهل يجوز له أن يفتى أو لا يجوز وانتهى منه الى ترجيح القول بالجواز وان العمل عليه ثم قال:

وقال الشافعى رحمه الله تعالى فيما رواه عنه الخطيب فى كتابه الفقيه والمتفقه له لا يحل لأحد أن يفتى فى دين الله عز وجل الا رجلا عارفا بكتاب الله الكريم بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهة وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد به ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن الكريم ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر وما يحتاج اليه للسنة والقرآن يستعمل هذا مع الانصاف ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا.

فاذا كان هذا فله أن يتكلم ويفتى فى الحلال والحرام واذا لم يكن هذا فليس له أن يفتى وقال صالح بن أحمد قلت لأبى ما تقول فى الرجل يسأل عن الشئ فيجيب بما فى الحديث وليس بعالم فى الفقه فقال ينبغى للرجل اذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن عالما بوجوه القرآن الكريم عالما بالأسانيد الصحيحة وذكر الكلام المتقدم.

وقال على بن شفيق قيل لابن المبارك متى يفتى الرجل.

قال: اذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأى وقيل ليحيى ابن أكثم متى يجب للرجل أن يفتى فقال اذا كان بصيرا بالرأى بصيرا بالأثر قلت (ابن القيم) يريدان بالرأى القياس الصحيح والمعانى والعلل الصحيحة التى علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردا أو عكسا وجاء فى كشاف القناع (٢) يحرم الحكم والفتيا بالهوى اجماعا وليحذر المفتى أن يميل فى فتياه مع المستفتى أو مع خصمه مثل أن يكتب فى جوابه ما هو له فقط‍ ونحو ذلك بل يكتب ماله وما عليه لأنه العدل وأداء الأمانة فيما علمه الله تعالى وليس له أن يبتدئ فى مسائل الدعاوى والبينات بذكر وجوه المخالص منها لأن ذلك ميل مع أحدهما وان سأله بأى شئ تندفع دعوى كذا وكذا وبينة كذا وكذا لم يجب لئلا يتوصل السائل بذلك الى ابطال حق وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه فاذا شرحه المستفتى له: أى للمفتى عرفه بما فيه من دافع وغير دافع ليكون على بصيرة ويحرم الحكم والفتيا بقول أو وجه من غير نظر فى الترجيح اجماعا ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه اجماعا.

ثم قال (٣): للمفتى أخذ الرزق من بيت المال لأن الافتاء من المصالح العامة كالأذان، ولو تعين عليه أن يفتى ولا كفاية «أى ليس عنده ما يكفيه لم يأخذ من المستفتى لأنه اعتياض عن واجب عليه ولا يجوز، ومن أخذ رزقا من بيت المال لم يأخذ من المستفتى أجرة لفتياه ولا لخطه لاستغنائه بالرزق والا. أى وان لم يأخذ رزقا أخذ أجرة خطه فقط‍، ويجب على الامام أن يفرض من بيت المال لمن نصب نفسه لتدريس العلم والفتوى فى الأحكام ما يغنيه عن التكسب لدعاء الحاجة الى القيام بذلك «أى اقتضائها» والانقطاع له وهو فى معنى الامامة والقضاء وان جعل له.


(١) الآية رقم ٢٦ من سورة الاسراء.
(٢) انظر كشاف القناع لابن ادريس الحنبلى وهامشه منتهى الارادات لابن يونس البهوتى ج‍ ٤ ص ١٧٤ وما بعدها الطبعة السابقة.
(٣) المرجع السابق لابن ادريس الجبلى ج‍ ٤ ص ١٧٦، ١٧٧ وما بعدها الطبعة السابقة.