للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

«أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} (١)» فما ليس له دم سائل لا يتناوله نفس التحريم فلا ينجس بالموت ولا يتنجس ما مات فيه قياسا على ما خلق منه (٢). وان وقع فى الماء دم أو خمر أو عذرة أو بول أفسده عندنا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة. فلو لم يكن ذلك مفسدا للماء ما كان للنهى عنه معنى ولا فائدة.

وفيه طريقتان:

احداهما أن الماء ينجس بوقوع النجاسة فيه لأن صفة الماء تتغير بما يلقى فيه حتى تضاف اليه كماء الزعفران وماء الباقلا.

والثانية أن عين الماء لا يتنجس ولكن يتعذر استعماله لمجاورة الفاسد لأن النجاسة تتفرق فى أجزاء الماء فلا يمكن استعمال جزء من الماء الا باستعمال جزء من النجاسة، واستعمال النجاسة حرام.

وأما ما روى من أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة وهى بئر يلقى فيه الجيف وحايض النساء فقد قيل أن بئر بضاعة كان ماؤه جاريا يسقى منه خمسة بساتين وعندنا الماء الجارى لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه وقيل انما كان يلقى فيه الجيف فى الجاهلية فان فى الاسلام نهيا عن مثل هذا.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من التنزه والتقذر ما يمنعه من التوضئ والشرب من بئر يلقى فيه ذلك فى وقته (٣). وان بزق فى الماء أو ان امتخط‍ لم يفسده لأنه طاهر لاقى طاهرا والدليل على طهارة البزاق أن النبى صلّى الله عليه وسلم استعان فى محو بعض الكتابة به، والدليل على طهارة المخاط‍ أن النبى صلّى الله عليه وسلم امتخط‍ فى صلاة فأخذه بثوبه ولكه، ثم المخاط‍ والنخامة سواء.

ولما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمار بن ياسر رضى الله تعالى عنه يغسل ثوبه من النخامة قال: ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذى فى ركوتك الا سواء. وان أدخل جنب وحائض ومحدث يده فى الاناء قبل أن يغسلها وليس عليها قذر لم يفسد الماء استحسانا، وكان ينبغى فى القياس أن يفسده لأن الحدث زال عن يده بادخالها فى الاناء فيصير الماء مستعملا كالماء الذى غسل به يده.

ووجه الاستحسان ما روى أن المهراس كان يوضع على باب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيها ماء فكان أصحاب الصفة رضوان الله تعالى عليهم يغترفون منه الوضوء بأيديهم، ولأن فيه بلوى وضرورة، فقد لا يجد شيئا يغترف به الماء من الاناء العظيم فيجعل يده لأجل الحاجة كالمغرفة.

واذا ثبت هذا فى المحدث فكذلك فى الجنب والحائض لما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اناء واحد فربما بدأت أنا وربما بدأ هو، وكنت أقول: أبق لى، وهو يقول: ابقى لى.

وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى فى الأمالى قال: اذا أدخل الجنب يده أو رجله فى البئر لم يفسده، وان أدخل رجله فى الاناء أفسده، وهذا معنى الحاجة، ففى البئر الحاجة الى ادخال الرجل لطلب الدلو فجعل عفوا، وفى الاناء الحاجة الى ادخال اليد، فلا تجعل الرجل عفوا فيه. وان أدخل فى البئر بعض جسده سوى اليد والرجل أفسده لأنه لا حاجة اليه.

وقال فى الأصل اذا اغتسل الطاهر فى البئر


(١) الآية رقم ١٤٥ من سورة الأنعام
(٢) المبسوط‍ لشمس الدين السرخسى المحتوى على كتب ظاهر الرواية للامام محمد بن الحسن الشيبانى ج ١ ص ٤٨ وما بعدها الى ص ٥٢ الطبعة الأولى طبع مطبعة السعادة بمصر سنة ١٣٢٤ هـ‍
(٣) المرجع السابق ج ١ ص ٥٢ نفس الطبعة