للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التاريخ الصحيح .. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على رأس المسلمين أسس دولتهم وأقام الحكومة الدينية وتولى الزعامة السياسية فيهم يحكم فيما شجر بين الناس ويقيم الحدود والزواجر على من يعتدى أو يجنى على نفس أو مال أو عرض أو عقل وينظم الموارد المالية كما أمر الله والمصارف في وجوه المصالح وإسعاد ذوى الحاجة ويتولى عند التحالف والمعاهدات وإعلان الحرب ورسم خططها مع المشاورة والأخذ بأحسن الآراء وأكفلها بالنجاح. ويسوس المسلمين ويدبر أمورهم الدينية والدنيوية. يتولى كل ذلك بنفسه أو بمن ينيبه ويندبه ممن يرى فيه الكفاية والمقدرة والصححية وأن القول بأن النبي لم يكن من طبيعته إلا تبليغ الرسالة وتنظيم شئون الدعوة إلى الله تعالى قول لا تساعده وقائع التاريخ ولا يتفق مع نصوص الشريعة ..

هذا هو منطق أئمة الشريعة وحملتها وحفاظها. وننقل معه وبجانبه ما فكره مؤرخ مسيحى كان دقيقا وأمينا في ذكر وقائع التاريخ ونقلها وهو جورجى زيدان .. قال في كتابه: "تاريخ التمدن الإسلامي" (١): "ولما ظهر الإِسلام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو رئيس المسلمين ومدبر أمورهم في شئون الدنيا والدين .. وهو حاكمهم وقاضيهم وصاحب شريعتهم وإمامهم وقائدهم .. وكان إذا ولى أحد أصحابه بعض الأطراف خوله السلطتين السياسية والدينية وأوصاه أن يحكم بالعدل ويعلم الناس القرآن".

وقد ألف أحد الغربيين من غير المسلمين كتاب أسماه "روح الشرق" وعرض فيه للتشريع الإسلامي في الجوانب التي تناولها هؤلاء الكتاب المسلمون فكان أصفى خاطرًا وأقرب إلى إنصاف الإسلام منهم - هذا المؤلف: هو: "أرغو هارت" وكتابه هذا منقول في كتاب روح الإسلام لأمير على (٢) ..

قال أرغو هارت في كتابه (٣): "إن الإِسلام منح الناس قانونا فطريا بسيطا غير أنه قابل لأعظم الترقيات الموافقة لرقى المدنية المادية ..

إنه منح الحكومة دستورًا يلائم الحقوق والواجبات أشد الملاءمة. فقد حدد الضرائب وساوى بين الخلق في نظر القانون وقدس مبادئ الحكم الذاتى وأوجد الرقابة على الحاكم بأن جعل الهيئة التنفيذية منقادة للقانون المقتبس من الدين والواجبات الأخلاقية. إن حسن كل واحد من هذه المبادئ التي يكفى كل واحد منها لتخليد ذكرى واضعه قد ضاعف في أهمية مجموعها وأصبح للنظام المكون منها قوة تفوق أي نظام سياسى آخر ..

إن هذا النظام مع أنه وضع في أيدى قوم أميين استطاع أن ينتشر في ممالك أكثر مما فتحته روما في عهد لا يتجاوز عمر الفرد ..

ولقد استمر منتصرًا لا يمكن إيقافه مدة محافظته على شكله الفطرى ..

أرأيت كيف يقرر البعيدون عن الإِسلام أن الإسلام قد عرف النظام السياسى وقرر فيه مبادئ يكفى كل واحد منها لتخليد ذكرى واضعه وأن هذه المبادئ تفوق أي نظام سياسى آخر .. في حين أن بعض مفكرى المسلمين ينكرون على الإسلام صلاحيته للحياة الدنيا ومعرفته للنظام السياسى وأن نبى الإسلام لم يكن له في شئون الأمة ولا في النظام السياسى وأمور الدولة عمل


(١) تاريخ التمدن الإسلامي لجورجى زيدان جـ ٤ ص ١٧٩.
(٢) روح الإسلام لأمير على ص ٢٧٧ وما بعدها.
(٣) روح الشرق لأرغو هارت جـ ١ ص ٣٨.