فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا .. ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة والله مقدرًا الليل والنهار .. وهو الواحد القهار ..
يقول ابن حزم في كتابه: الفصل في الملل والأهواء والنحل (١): فالواجب النظر في ذلك (فيما تنعقد به الإِمامة) على ما أوجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز وجل إذ يقول:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه:
الأول: وأفضلها وأصحها أن يعهد الإِمام الميت إلى إنسان يختاره إماما بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبى بكر - رضى الله عنه - وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإِمامة وانتظام أمر الإِسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس، وحدوث الأطماع.
الثاني: إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعو إلى نفسه ولا منازع له ففرض أتباعه والانقياد لبيعته والتزام طاعته وإمامته كما فعل على إذ قتل عثمان - رضى اللّه عنهما -.
الثالث: أن يصير الإمام عند اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أَو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر - رضى اللّه عنه - عند موته وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ - وليس في كلام ابن حزم ما يشير إلى اعتباره الغلبة والقهر طريقا لانعقاد الإِمامة ..
ويتساءل البعض هنا .. إذا كان الفقهاء يعتبرون السيف والقوة والغلبة طريقا لانعقاد الخلافة ويرجعون على المسلمين التسليم والخضوع والطاعة لهذا المتغلب - فأين الدين إذن وأين سلطانه ومقرراته وأحكامه إذا كانت الخلافة تخضع لحكم القوة ولا تجد من الدين الذي قررها وقرر أحكامها معتصما تعتصم به وركنا تأوى إليه يحاذره ويرتد عنه كل ذى قوة وذى بطش يريد العبث .. وكيف يراد من مثل هذا المتغلب أن يخضع لحكم الدين في سيره وأحكامه؟ أنه لن ينزل إلا على حكم السيف والقوة والعصبية ..
ويجاب بأن الفقهاء الذين اعتبروا الغلبة والقهر طريقا إنما أرادوا بذلك البعد عن وقوع المسلمين في فتنة قد تؤدى إلى فرقة وانقسام واختلاف وقد تؤدى إلى وقوع قتال وحرب بين المسلمين مما لا يعلم نتائجه إلا الله تعالى ..
وقد صرح صاحب الدر المختار وابن عابدين بأن ذلك للضرورة وخوف الفتنة .. وساق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اسمعوا وأطيعوا ولو ولى عليكم عبد حبشى أجدع" وأشار إلى أن هذا طريق استثنائى أجيز انعقاد الخلافة به دفعا للفتنة والشر