رضى اللّه عنه في أيام الحرة: "نحن مع من غلب".
ويرى الفيلسوف ابن خلدون أن الإِمامة تنعقد لمن غلب بالشوكة والعصبية ومن ثم فإنه يرى أن انتقال الخلافة إلى الملك أمر طبيعى إذا كان الملك يستند دائما إلى العصبية التي هي القوة الغالبة في الحياة .. وأن خلافة الأمويين في الأعم الأغلب والعباسيين قامت على العصبية والتغلب والقهر بها. وانعقد الأمر لهم وقيل لهم الخلفاء وأمراء المؤمنين ..
وقد عقد لذلك فصلا طويلا هو الفصل الثامن والعشرون في انقلاب الخلافة إلى الملك (١) بعد أن تحدث عن الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماتها وطابعها إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين:
"ولما جاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلنا وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل .. ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق ..
ولما وقعت الفتنة بين على ومعاوية - رضى الله عنهما - وهى مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد .. ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوى أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم أو ينزع إليه ملحد ..
وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد منهما نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه وإن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائما فيها بقصد الباطل .. إنما قصد الحق وأخطأ .. والكل كانوا في مقاصدهم على حق ..
ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به .. ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها واستشعرته ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتضاء الحق بين أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه ..
ولو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالإِثم لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة.
وقد كان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يقول: إذا رأى القاسم بن محمد بن أبى بكر: لو كان لى من الأمر شئ لوليته الخلافة. ولو أراد أن يعهد إليه لفعل .. ولكنه كان يخشى من بنى أمية أهل الحل والعقد فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة وهذا كلمه إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية ..
وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكًا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغى إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم ..
ثم جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم.
فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم وولى العباسيون الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرفوا الملك في دعوة الحق ومذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد فكان منهم الصالح والطالح ..
ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه .. فتأذن الله بحربهم وانتزاع الأمر من يد العرب جملة .. وأمكن سواهم .. والله لا يظلم مثقال ذرة ..