الطريق الأول: أنه لو كان نص جلى ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بمصالح الدين والدنيا لعامة الخلق لتواتر واشتهر فيما بين الصحابة وظهر لدى أجلتهم الذين لهم زيادة قرب النبي - صلى الله عليه وسلم - واختصاص بهذا الأمر بحكم العادة واللازم منتف .. وإلا لم يتوقفوا عن الانقياد لهذا النص والعمل بموجبه ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بنى ساعدة لتعيين الإمام ولم يقل الأنصار منا أمير ومنكم أمير ..
ولم تمل طائفة إلى أبى بكر - رضي الله عنه - وأخرى إلى على - رضي الله عنه - .. وأخرى إلي العباس - رضي الله عنه - .. ولم يقل عمر - رضى الله عنه - لأبى عبيدة - رضي الله عنه - أمدد يدك أبايعك .. ولما ترك المنصوص عليه محاجة القوم ومخاصتهم وإدعاء الأمر له والتمسك بالنص عليه …
فإن قيل: علموا ذلك وكتموه لأغراض لهم في ذلك كحب الرياسة والحقد على عليٍّ - رضى اللّه عنه - لقتله أقرباءهم وعشائرهم في حرب المسلمين مع الكفار وحسدهم إياه على ما له من المناقب ولكمالات وشدة الاختصاص بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وأظنهم أن النص قد لحقه النسخ لما رأوا ترك كبار الصحابة العمل به إلى غير ذلك وترك على - رضى اللّه عنه - المحاجة به تقية وخوفا من الأعداء وقلة وثوق بقبول الجماعة ..
قلنا: من كان له حظ من الديانة والإِنصاف علم قطعا براءة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلالة أقدارهم عن مخالفة أمره في مثل هذا الخطب الجليل ومتابعة الهوى وترك الدليل واتباع خطوات الشيطان والضلال عن سواء السبيل .. وكيف يظن بجماعة - رضى اللّه عنهم - وآثرهم الله لصحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونصرة دينه ووصفهم بكونهم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ..
وقد تواتر منهم الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها وزخارفها ومستلزماتها والإقبال على بذل مهجهم وذخائرهم ونقل أقاربهم وعشائرهم في نصرة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة شريعته وإنقياد أمل واتباع طريقته .. كيف يظن بهؤلاء أنهم خالفوه قبل أن يدفنوه وتركوا هداهم واتبعوا هواهم وعدلوا عن الحق الصحيح إلى الباطن الصريح وخذلوا مستحقا من بنى هاشم، وخاص ذوى القربى، إلى غاصب من بنى تميم أو عدى بن كعب ..
وأن مثل على - رضى اللّه عنه - مع صلابته في الدين وبساطته وشدة شكيمته وقوة عزيمته وعلو شأنه وكثرة أعوانه وكون أكثر المهاجرين والأنصار والرؤساء الكبار معه قد ترك حقه وسلم الأمر لمن لا يستحقه من شيخ من بنى تميم ضعيف الحال عديم المال قليل الأتباع والأشياع .. ولم يقم بأمره وطلب حقه كما قام به حين أفضت النوبة إليه وقاتل من نازعه بكلتا يديه حتى فنى الخلق الكثير والجم الغفير ..
وآثر على التقية الحمية في الدين والعصبية للإسلام والمسلمين مع أن الخطب إذ ذاك أشد .. والخصم ألد .. وفى أول الأمر قلوب القوم أرق وجانبهم أسهل وآراؤهم إلى اتباع الحق واجتناب الباطل أميل ..
وعهدهم بالنبى - صلى الله عليه وسلم - أقوى وهممهم في تنفيذ أحكامه أرغب ..
ومن ادعى النص الجلى فقد طعن في كبار المهاجرين والأنصار عامة بمخالفة الحق وكتمانه وفى على - رضى الله عنه - خاصة بإتباع الباطل وإذعانه .. بل في النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث اتخذ القوم