لنبوته ويوحى إليه مصالح الملك والملة. ويراه أهلا لتبليغ ما أوحى إليه بمشيئته فيدل ذلك قطعا على أفضليته وإليه الإِشارة بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .. وقد يحتج لجواز تقديم المفضول بوجوه:
الأول: إجماع العلماء بعد الخلفاء الراشدين على انعقاد الإِمامة لبعض القرشيين مع أن فيهم من هو أفضل منه.
الثاني: أن عمر - رضى الله عنه - جعل الإمامة شورى بين ستة من غير تكبر عليه مع أن فيهم عثمان وعليا وهما أفضل من غيرهما إجماعًا .. ولو وجب تعيين الأفضل بينهما.
الثالث: أن الأفضلية أمر خفى قلما يطلع عليه أهل الحل والعقد .. وربما يقع فيه النزاع ويتشوش الأمر .. وإذا أنصفت فيتعين الأفضل متعسر في أقل فرقة من فرق الفاضلين فكيف في قريش مع كثرتهم وتفرقهم في الأطراف .. وأنت خبير بأن هذا وأمثاله على تقدير تمامه إنما يصلح لاحتجاج به على أهل الحق دون الروافض فإن الإِمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق ..
وجاء في الفصل بين الملل والأهواء والنحل (١) الكلام في إمامة المفضول: قال أبو محمد:
ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من المعتزلة، وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب الباقلانى ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا تجوز إمامة من يوجد في الناس من أفضل منه ..
وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإِمامة جائزة لمن غيره أفضل منه .. قال أبو محمد:
وأما الرافضة فقالوا: إن الإِمامة لواحد معروف في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم التي قد تقدم أفادنا لها والحمد لله رب العالمين ..
وربما نعلم لمن قال: إن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد - حجة أصلا لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب ..
وما كان هكذا فهو أحق قول بالإِجماع ..
وقد قال أبو بكر - رضى اللّه عنه - يوم السقيفة: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعنى أبا عبيدة وعمر .. وأبو بكر خير منهما بلا شك .. فما قال أحد من المسلمين إنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين .. ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة وفى المسلمين عدد كبير كلهم أفضل منه بلا شك.
نصح بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز إمامة المفضول .. ثم عهد عمر - رضى الله عنه - إلى ستة رجال ولابد أن بعضهم على بعض فضلا ..
وقد أجمع أهل الإِسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإِمام الواجبة طاعته ..
وفى هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول ثم مات على - رضى اللّه عنه - فبويع ابنه الحسن ثم سلم الأمر إلى معاوية وفى بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن انفق من قبل الفتح وقاتل فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته .. وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غير أفضل بيقين
(١) الفصل بين الملل والأهواء والنحل جـ ٤ ص ١٢٦.