للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال العلامة أبو بكر الكاسانى الحنفى ملك العلماء في كتابه (١): "وكل ما يخرج به الوكيل عن الوكالة يخرج به القاضي عن القضاء لا يختلفان إلا في شئ واحد وهو أن الموكل إذا مات أو خلع وزال عنه الوصف الذي وكل بمقتضاه ينعزل الوكيل ..

والخليفة إذا مات أو خلع لا تنعزل قضاته ولا ولاته ..

ووجه الفرق أن الوكيل يعمل بولاية الموكل وفى خالص حقه أيضا وقد بطلت أهلية الولاية ولم يبق الحق فينعزل الوكيل ..

والقاضى لا يعمل بولاية الخليفة ولا في حقه .. بل بولاية المسلمين وفى حقوقهم .. وإنما الخليفة بمنزلة الرسول عنهم في تعيين القضاة والولاة ..

لهذا لم تلحقه العهدة كالرسول في سائر العقود والوكيل في النكاح .. وإذا كان رسولا كان فعله بمنزلة فعل عامة المسلمين .. وولاية المسلمين بعد موت الخليفة باقية فسيبقى القاضي على ولايته بعد موت الخليفة .. وهذا بخلاف العزل ..

فإن الخليفة إذا عزل القاضي أو الوالى ينعزل بعزله ولا ينعزل بموته لأنه في الحقيقة لا ينعزل بعزل الخليفة أيضا بل ينعزل بعزل عامة المسلمين أصحاب الولاية لما ذكرنا أن توليته بتولية العامة .. والعامة حين ولوه الخلافة ولوه الاستبدال والتغير دلالة وضمنا لتعلق مصلحتهم بذلك .. فكانت ولايته منهم معنى في العزل أيضا .. فهو الفرق بين العزل والموت".

فالكاسانى يقرر في دقة وصراحة أن الخليفة في تصرفاته في شئون المسلمين بمنزلة الرسول عنهم لا يرجع إليه شئ من حقوق التصرف وآثاره ما دام لم يسئ التصرف ولم يتجاوز حدوده ..

بل ترجع هذه الآثار والحقوق إلى الأصيل وهو عامة المسلمين .. كالوكيل في عقد النكاح يعتبره فقهاء الحنفية مجرد سفير ومعبر عن الموكل لا يرجع الله بشئ من حقوق العقد .. فإذا كان قاضيا أو أقام واليا ثم مات لا ينعزل القاضي ولا الوالى على خلاف الحكم في موت الموكل يترتب عليه عزل الوكيل وإنما ينعزل القاضي أو الوالى إذا عزله الخليفة مع هذا الوضع لأن العزل في واقع الأمر ليس من الخليفة وإنما هو من عامة المسلمين ..

لأن المسلمين حين ولوا الخليفة وبايعوه وجعلوا له حق استبدال القضاة والولاة ومن في حكمهم لتعلق مصالحهم بذلك فهو يعزلهم بولاية من الأمة فهى التي تعزلهم حقيقة ممثلة فيه ..

وظاهر أن من مقتضى هذا التصوير أن تملك الأمة عزل الخليفة إذا هو خرج على مقتضى التوكيل وصدر منه ما يستوجب العزل .. وهو أيضا من مقتضى المسئولية التي قررها شارع الإِسلام كما أشرنا سابقا لأن من يملك المساءلة يملك العزل وسيأتى بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

ويقول المرحوم محمود فياض (٢): وإذن فالبيعة هي عقد وكالة بين الأمة وحاكمها المنتخب من أفرادها المسئولة عنها ..

وظاهر جدًّا أن عقد الوكالة ليس عند تمليك للوكيل ولا يقتضى تمليكا .. وإنما هو عقد إذن


(١) بدائع الصنائع للعلامة أبو بكر الكاسانى جـ ٧ ص ١٦.
(٢) كتاب الفقه السياسى عند المسلمين للمرحوم محمود فياض ص ٢٦ وما بعدها.