وما كان خليفة أن يفرط فيها ولا أن يطغى .. هي سبيل الدين الإِسلامي التي قام محمد - صلى الله عليه وسلم - يوضحها للناس حقبة من الدهر .. والتي حددها كتاب الله الكريم وسنة محمد وإجماع المسلمين ..
نعم هم يعتبرون الخليفة مقيدا بقيود الشرع .. ويرون ذلك كافيا في ضبطه يوما إن أراد أن يجمح، وفى تقويم ميله إذا أخيف أن يجنح ..
وقد ذهب قوم منهم إلى أن الخليفة إذا جار أو فجر العزل من الخلافة .. وقد فرقوا لذلك بين الخلافة والملك على ما بينه ابن خلدون في مقدمتهم في فصل انقلاب الخلافة إلى الملك ..
وقد كان واجبا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة كل تلك القوة ورفعوه إلى ذلك المقام أن يذكروا لنا مصدر تلف القوة التي زعموها للخليفة أنى جاءته ومن الذي حياه بها وأفاضها عليه؟ لكنهم أهملوا ذلك البحث على أن الذي يستقرئ عبارات القوم المتصلة يهذا الموضوع يستطيع أن يأخذ منها بطريق الاستنتاج أن للمسلمين في ذلك مذهبين:
المذهب الأول: أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوته .. رأى نجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين أيضا. وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو وتشير إلى هذه العقيدة وقد ذكرنا فيما سبق أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى ..
وأن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسى زعم في خطبة له بمكة أنه إنما هو سلطان الله في أرضه.
كذلك شاع هذا الرأى وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى فتراهم يذهبون إلى أن الله جل شأنه هو الذي يختار الخليفة ويسوق إليه الخلافة كما ترى في قول الشاعر:
جاء الخلافة أو كانت له نورا … كما أتى ربه موسى على نور
وفي قول الآخر:
ولقد أراد الله إذ ولاكها … من أمة إصلاحها ورشادها
وقول الفرذق يمدح هشام بن عبد الملك الخليفة الأموى:
هشام خيار الله للناس والذي … به ينجلى عن كل أرض ظلامها
وأنت لهذا الناس بعد نبيهم … سماء يرجى للمحمول غمامها
ولقد كان شيوع هذا الرأى وجريانه على الألسنة مما سهل على الشعراء أن يصلوا في مبالغتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية أو قريبا منها .. وأنت إذا رجعت إلى كثير مما ألف العلماء خصوصا بعد القرن الخامس الهجرى وجدتهم إذا ذكروا في أول كتبهم أحد الملوك أو السلاطين رفعوه فوق صف البشر ..
ووضعوه غير بعيد عن مقام العزة الإِلهية .. ودونك مثالا لذلك .. ما جاء في خطبة نجم الدين القزوينى في أول الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية حيث قال: "فأشار إلى من سعد بلطف الحق وامتاز بتأييده من كافة الخلق .. ومال إلى جنابه الدانى والقاصى .. وأفلح بمتابعته المطيع والعاصى" .. وقال شارح تلك الرسالة قطب الدين الرازى في خطبة شرحه: "وخدمت به عالى حضرة من خصه الله تعالى بالنفس القدسية والرياسة الأنسية اللائح من غرته الغراء لوائح السعادة الأبدية والفائح من همته العلياء روائح العناية السرمدية - شرف الحق والدولة والدين رشيد الإِسلام ومرشد المسلمين ..