للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكم حق ولا حد حتى لقد ذهب الدين في أكثرها .. فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو إلى أكثر من واحد .. فإذ لابد من أحد هذين الوجهين ..

فإن الاثنين فصاعدا بينهما أو بينهم ما ذكر من الاختلاف والتنافس فلا يتم أمر البتة .. فلم يبق وجه تتم به الأمور إلَّا الإِسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوى على الإنفاذ إلا أنه إن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا ..

وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا عن الظلم ما أمكنهم إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك ..

وإلا فكف ما قدروا على كفه منه .. ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك ..

ثم اتفق من ذكرنا من جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج من يرى منهم فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ..

ولا يجوز إلا إمام واحد .. إلا أن محمد بن كرام السجستانى وأبا الصباح السمرقندى وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد ..

واحتج هؤلاء بقول الأنصار أو من قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين: "منا أمير ومنكم أمير، فلولا أن التعدد جائز لما قال ذلك قائلهم وهو من الصحابة وسكت الأنصار على قوله .. واحتجوا أيضا بأمر الإِمام على بن أبى طالب وابنه الحسن رضى الله عنهما مع معاوية رضى الله عنه إذا قام أكثر من إمام في وقت واحد ..

قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضى الله عنهم "منا أمير ومنكم أمير" لم يكن صوابا بل كان خطأ أداهم إليه الاجتهاد وخالفهم فيه المهاجرون .. ولأن إذا اختلف القائلان على قولين متنافيين من أن يكون أحدهما حقا والآخر خطأ ..

وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز وجل الرد إليه عند التنازع إذ يقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال -:"إذا بويع لإِمامين فاقتلوا الآخر منهما - وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فحرم الله عز وجل التفرق والتنازع ..

وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا ..

وأما من طريق النظر والمصلحة .. فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة أو أكثر فإن منع ذلك مانع كان متحكما بلا برهان ومدعيا بلا دليل .. وهذا هو الباطل الذي لا يعجز عنه أحد.

وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في العالم إمام أو في كل مدينة إمام أو في كل قرية أو يكون كل أحد إمامًا وخليفة في منزله .. وهذا هو الفساد والمحض وهلاك الدين والدنيا فصح أن قول الأنصار رضى الله عنهم رهالة وخطأ رجعوا عنه إلى الحق وعصمهم الله تعالى من التمادى عليه فلا محل للتمسك والاحتجاج بقول تركه صاحبه ورجع عنه لما تبين له أنه خطأ …