للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز .. ولأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستتابة ونيابة الوزير المشارك له في التدبير وذلك أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر بها على نفسه .. وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل ..

ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده .. لأنه محضى الآراء منفذ الاجتهاد فاقتضى أن يكون على صفات المجتهدين .. ويحتاج فيها إلى شرط زائد على شروط الإمامة ..

وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمر الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما فإنه مباسر لهما تارة ومستنيت فيهما أخرى .. فلا يصل إلى استنابة الكفاة إلا أن يكون منهم كما لا يقدر على المباشرة إذا قصد عنهم .. وعلى هذا الشرط مدار الوزارة وبه تنتظم السياسة ..

وقد كتب المأمون رضى الله عنه في اختيار وزير فقال: "إنى التمست لأمورى رجلا جامعا لخصال الخير ذا عفة في خلائقه واستقامة في طرائقه قد هذبته الآداب .. وأحكمته التجارب .. إن أؤتمن على الأسرار قام بها .. وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها .. يسكته الحلم .. وينطقه العلم .. وتكفيه اللحظة .. وتغنيه اللمحة .. له صولة الأمراء .. وأناة الحكماء .. وتواضع العلماء .. وفهم الفقهاء .. إن أحسن إليه شكر وإن ابتلى بالإساءة صبر .. لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده .. ويسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه .. وحسن بيانه .. ".

فهذه الأوصاف إذا كملت في الزعيم المدبر .. وقل ما تكمل .. فالصلاح بنظره عام .. وما يناط برأيه وتدبيره تام .. وإن اختلت فالصلاح بحسبها يختل .. والتدبير على قدرها يعتلى .. ولئن لم يكن هذا من الشروط الدينية المحضة فهو من الشروط السياسية الممازحة لشروط الدين لما يتعلق بها من مصالح الأمة ..

واستقامة الملة .. فإذا كملت شروط هذه الوزارة فيمن هو أهل لها فصحة التقليد فيها معتبرة بلفظ الخليفة المستوزر بأن يجمع في لفظه بين تفويض عموم النظر له والنيابة عنه كأن يقول: "قلدتك ما إليّ نيابة عنى" وبالاقتصار على أحدهما لا تنعقد الوزارة ..

ألم تر أن الله تعالى يقول حكاية عن نبيه موسى صلوات الله عليه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} فلم يقتصر على مجرد الوزارة حتى قرنها بشد أزره وأشركه في أمره ..

والنظر في وزارة التفويض معتبر بشرطين يقع بهما الفرق بين الإمامة والوزارة:

الأول: يختص بالوزير وهو مطالعة الإمام لما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد لئلا يصير بالاستبداد بالأمور كالإمام وهو غير مفوض بالإِمامة من قبل من له حق إقامته ..

الثاني: مختص بالإمام وهو أن يتصفح أعمال الوزير وتدبيره الأمور ليقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه لأن تدبير الأمة إليه موكول .. وعلى اجتهاده محمول ..

ويجوز لهذا الوزير أن يحتكم بنفسه وأن يقلد الحكام كما يجوز ذلك للإمام لأن شروط الإمامة فيه معتبرة .. وكل ما صح من الإمام صح من الوزير إلا ثلاثة أشياء: