للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد ناقش البعض القول بالنسخ ورأى أنه ليس هناك ما يدعو إليه فإن من المقرر أنه لا يلجأ إلى النسخ إلا عند عدم إمكان الجمع بين المتعارضين وهنا الجمع ممكن بحمل الأحاديث الداعية إلى الصبر والمسالمة على حالة ما إذا كان اللجوء إلى القوة واستعمال السلاح سيؤدى إلى ضرر كبير بالمسلمين بأن كانوا غير قادرين على المقاومة .. أو كانت المقاومة ستؤدى إلى فتنة وانقسام بين المسلمين وينشأ عنها تفرق كلمتهم بحيث يؤدى إلى ضرر شامل لا يحتمل .. وحمل الأحاديث الداعية إلى المقاومة واستعمال القوة على حالة ما إذا كان ذلك مقدورا لجماعة المسلمين في استطاعتهم الوصول إلى غايتهم دون أن يترتب على ذلك ضرر عام ..

وقد تقدم في أقوال العلماء وآرائهم التي نقلناها ما يشير إلى ذلك ويؤيده …

وفى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده إن استطاع .. فإن لم يستطع فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" أي ليس وراء ذلك من الإيمان شئ كما يقول ابن حزم … فالنبى - صلى الله عليه وسلم - حين أمر في الحديث بتغيير المنكر باليد قيد ذلك بالاستطاعة أي القدرة على التغيير كذلك في أمره بالتغيير في باللسان قيده بالاستطاعة .. ولا شك أن من أحوال عدم الاستطاعة ما إذا كان قادرًا ولكن سيترتب على استعمال القوة فتنة وفرقة يكون من ورائها ضرر عام بما يصيب المسلمين من ضعف نتيجة الانقسام والتفرق.

وهذا في مثل حالة الإِنكار على الإِمام إذا فسق أو انحرف وإلا فالمنكر في لفظ الحديث عام أي منكر كان من فرد أو من جماعة .. من حاكم أو محكوم .. والإِنكار بالقلب أن يدخل في قلب كل مسلم حين يرى المنكر فليس لمسلم عذر في عدم الإِنكار بقلبه لأن ذلك يكون معناه الرضا عن المنكر وهذا إثم إذ يكون قد اطمأن قلبه إلى المنكر ورضى به.

فالإنكار بالقلب فرض عين على كل مسلم يرى المنكر أما الإنكار باليد أو باللسان فذلك متروك لظروف الناس وأحوالهم.

والمراد باللسان الذي جعله الحديث أداة لمحاربة المنكر .. اللسان الذي يقدم النصح ويجادل عن الحق والمعروف بالتى هي أحسن ويتحرك بالحكمة والموعظة الحسنة.

وفى هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة" قالوا لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله .. ولأئمة المسلمين وعامتهم .. " على خلاف اللسان الذي يتخذ السباب والبذاءة طريقا لمحاربة الباطل .. فإن ذلك باطل يراد به دفع الباطل .. وهو لا ينفع .. بل قد يضر ..

ثم إن الصبر الذي تدعو إليه أحاديث المسالمة ليس المراد به الاستكانة والدعوة إلى الخنوع والانعزال عن الحياة وإنما المراد تسكين النفوس وتطمين القلوب كيلا يستبد بالناس الجزع وتيأس نفوسهم من رحمة الله ..

فهو الصبر الذي يأخذ بقلوب المؤمنين حين تنزل بهم الشدائد فلا تنحل لها عزائمهم ولا تضيق بها طاقاتهم حتى تنجلى الغمة وتنقشع غيومها ..

ومن الحق أن نسوق هنا ما أثر عن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم مما يعتبر أساسًا عريضا في هذا الباب:

روى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه خطب بعد أن تولى الخلافة فقال: "اعلموا أيها