للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شئ من ذلك آمرا وتكليف آبى جهل الإِيمان غير محال، فإن الأدلة منصوبة والعقل حاضر وآلته تامة، ولكن علم الله تعالى منه أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا، والعلم يتبع المعلوم ولا يغيره، وكذلك نقول: الله قادر على أن يقيم القيامة في وقتنا وإن أخبر أنه لا يقيمها الآن، وخلاف خبره محال إذ يصير وعيده كذبا، لكن استحالته لا ترجع إلى نفس الشئ، فلا تؤثر فيه (١).

وجاء في إرشاد الفحول أن شرط الفعل الذي وقع التكليف به أن يكون ممكنا فلا يجوز التكليف بالمستحيل عند الجمهور وهو الحق، وسواء كان مستحيلا بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى امتناع تعلق قدرة المكلف به وقال جمهور الأشاعرة بالجواز مطلقا، وقال جماعة منهم إنه ممتنع في الممتنع لذاته، جائز في الممتنع لامتناع تعلى قدرة المكلف به. واحتج الأولون بأنه لو صح التكليف بالمستحيل لكان مطلوبا حصوله، واللازم باطل لأن تصور ذات المستحيل مع عدم تصور ما يلزم ذاته لذاته من عدم الحصول يقتضى أن تكون ذاته غير ذاته فيلزم قلب الحقائق؛ وبيانه أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل فلا يمكن أن يتصور شئ هو اجتماع النقيضين، فتصوره إما على طريق التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثم يعقل مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله بين السواد والبياض، وإما على سبيل النفى بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم اجتماع السواد والبياض وبالجملة فلا يمكن تعقله بماهيته بل باعتبار من الاعتبارات. والحاصل أن قبح التكليف بما لا يطاق معلوم بالضرورة فلا يحتاج إلى استدلال، والمجوز لذلك لم يأت بما ينبغى الاشتغال بتحريره والتعرض لرده ولهذا وافق كثير من القائلين بالجواز على امتناع الوقوع فقالوا يجوز التكليف بما لا يطاق مع كونه ممتنع الوقوع، ومما يدل على هذه المسألة في الجملة قوله سبحانه وتعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" (٢). وقوله عز وجل "لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها (٣)، وقوله تعالى: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" (٤)، وقد ثبت في الصحيحين أن الله سبحانه وتعالى قال عند هذه الدعوات المذكورة في القرآن: قد فعلت. وهذه الآيات ونحوها إنما تدل على عدم الوقوع لا على عدم الجواز، على أن الخلاف في مجرد الجواز لا يترتب عليه فائدة أصلا. قال المثبتون للتكليف بما لا يطاق: لو لم يصح التكليف به لم يقع، وقد وقع لأن العاصى مأمور بالإِيمان وممتنع منه الفعل لأن الله قد علم أنه لا يؤمن، ووقوع خلاف معلوم الله سبحانه وتعالى محال، وإلا لزم الجهل، واللازم باطل، فالملزوم مثله. وقالوا أيضا بأنه لو لم يجز لم يقع، وقد وقع فإنه سبحانه كلف أبا جهل بالإِيمان وهو تصديق رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما جاء به، ومن جملة ما جاء به أن أبا جهل لا يصدفه، فقد كلفه بأن يصدقه في أنه لا يصدقه، وهو محال. وأجيب عن الدليل الأول بأن ذلك لا يمنع تصور


(١) روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه لموفق الدين أبى محمد عبد الله بن قدامة المقدسى الدمشقي جـ ١ ص ١٤٩ وما بعدها إلى ص ١٥٦ في كتاب أسفله شرح روضة الناظر: نزهة الخاطر العاطر للشيخ عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بدران الدومى ثم الدمشقى طبع المطبعة السلفية بمصر سنة ١٣٤٢ هـ.
(٢) الآية رقم ٢٨٦ من سورة البقرة.
(٣) الآية رقم ٧ من سورة الطلاق.
(٤) الآية رقم ٢٨٦ من سورة البقرة.