مطلقا فلا تسقط بمضى الزمان كسائر الديون المطلقة، ولا حجة له في الآيتين لأن فيهما وجوب النفقة لا بقاؤها واجبة لأنهما لا يتعرضان للوقت، فلو ثبت البقاء فإنما يثبت باستصحاب الحال وأنه لا يصلح لإِلزام الخصم. وأما قوله إن الأصل فيما وجب على إنسان لا يسقط إلا بالإِيصال أو الإِبراء فنقول هذا حكم الواجب مطلقا لا حكم الواجب على طريق الصلة بل حكمه أنه يسقط بمضى الزمان كنفقة الأقارب وأجرة المسكن، وقد خرج الجواب عن قوله أنها وجبت عوضا وأما الجبر والحبس فالصلة تحتمل ذلك في الجملة فإنه يجبر على نفقة الأقارب ويحبس بها وإن كانت صلة، وكذا من أوصى بأن يوهب عبده من فلان بعد قوله فمات الموصى فامتنع الوارث من تنفيذ الهبة في العبد فإنه يجبر عليه ويحبس بأنه وإن كانت الهبة صلة فدل أن الجبر والحبس لا ينفيان معنى الصلة. وعلى هذا يخرج ما إذا استدانت على الزوج قبل الفرض أو التراضى فأنفقت أنها لا ترجع بذلك على الزوج بل تكون متطوعة في الإِنفاق، سواء كان الزوج غائبا أو حاضرا لأنها لم تصر دينا في ذمة الزوج لعدم شرط صيرورتها دينا في ذمته فكانت الاستدانة إلزام الدين الزوج بغير أمره وأمر من له ولاية الأمر فلم يصح، وكذا إذا أنفقت من مال نفسها لما قلنا، وكذا لو أبرأت زوجها من النفقة قبل فرض القاضي والتراضى لا يصح الإِبراء لأنه إبراء عما ليس بواجب، والإِبراء إسقاط، وإسقاط ما ليس بواجب ممتنع. وكذا لو صالحت زوجها على نفقة وذلك لا يكفيها ثم طلبت من القاضي ما يكفيها فإن القاضي يفرض لها ما يكفيها لأنها حطت ما ليس بواجب، والحط قبل الوجوب باطل كالإِبراء (١). هذا ولوجوب الفرض على القاضي وجوازه منه شرطان أحدهما طلب المرأة الفرض منه لأنه إنما يفرض النفقة على الزوج حقا لها فلابد من الطلب من صاحب الحق، والثانى: حضرة الزوج حتى لو كان الزوج غائبا فطلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها عليها نفقة لم يفرض، وإن كان القاضي عالما بالزوجية وهذا قول أبى حنيفة الآخر، وهو قول شريح، وقد كان أبو حنيفة أولا يقول - وهو قول إبراهيم النخعى - إن هذا ليس بشرط. ويفرض القاضي النفقة على الغائب، وحجة هذا القول ما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لهند امرأة أبى سفيان خذى من مال أبى سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف، وذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فرضا للنفقة على أبى سفيان وكان غائبا، وحجة القول الأخير أن الفرض من القاضي على الغائب قضاء عليه وقد صح من أصلنا أن القضاء على الغائب لا يجوز إلا أن يكون عنه خصم حاضر ولم يوجد، وأما الحديث فلا حجة له فيه لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قال لهند على سبيل الفتوى لا على طريق القضاء بدليل أنه لم يقدر لها ما تأخذه من مال أبى سفيان. وفرض النفقة من القاضي تقديرها. فإذا لم تقدر لم تكن فرضا فلم تكن قضاء، تحقيقه أن من يجوز القضاء على الغائب فإنما يجوزه إذا كان غائبا غيبة سفر فأما إذا كان في المصر فإنه لا يجوز بالإجماع لأنه لا يعد غائبا وأبو سفيان لم يكن مسافرا، فدل أن ذلك كان إعانة لا قضاء، فإن لم يكن القاضي عالما
(١) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسانى جـ ٤ ص ٢٥، ص ٢٦ الطبعة الأولى طبع مطبعة الجمالية بمصر سنة ١٣٢٨ هـ سنة ١٩١٠ م.