للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

توعد على ترك الإِيفاء بعد الفراغ من العمل، وقد قلتم تجب الأجر شيئا فشيئا، ويحتمل أنه توعده على ترك الإِيفاء في الوقت الذي تتوجه المطالبة فيه عادة. هذا إلى أن الآية والأخبار إنما وردت فيمن استؤجر على عمل، فأما ما وقعت الإِجارة فيه على مدة فلا تعرض لها به، وأما إذا كانت الإِجارة على عمل فإن الأجر يملك بالعقد أيضًا لكن لا يستحق تسليمه إلا عند تسليم العمل، قال ابن أبي موسى من استؤجر لعمل معلوم استحق الأجر عند إيفاء العمل وإن استؤجر في كل يوم بأجر معلوم فله أجر كل يوم عند تمامه، وقال أبو الخطاب رحمه الله تعالى: الأجر يملك بالعقد ويستحق بالتسليم ويستقر بمضى المدة. وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل لأنَّهُ عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق والثمن في المبيع، وفارق الإجارة على الأعيان لأن تسليمها جرى مجرى تسليم نفعها ومتى كان على منفعة في الذمة لم يحصل تسليم المنفعة ولا ما يقوم مقامها فتوقف استحقا تسليم الأجر على تسليم العمل، وقولهم لم يملك المنافع قد سبق الجواب عنه، فإن قيل: فإن المؤجر إذا قبض الأجر انتفع به كله بخلاف المستأجر فإنه لا يحصل له استيفاء المنفعة كلها، قلنا لا يمتنع هذا كما لو شرطنا التعجيل أو كان الثمن عينا (١). وإذا استوفى المستأجر المنافع استقر الأجر لأنَّهُ قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع، وإن سلمت إليه العين التي وقعت الإِجارة عليها ومضت المدة ولا حاجز له عن الانتفاع استقر الأجر وإن لم ينتفع لأن المعقود عليه تلف تحت يده وهى حقه فاستقر عليه بدلها كثمن المبيع إذا تلف في يد المشترى، وإن كانت الإِجارة على عمل فتسلم المعقود عليه ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها مثل أن يكترى دابة ليركبها إلى حمص فقبضها ومضت مدة يمكن ركوبها فيها فقال أصحابنا: يستقر عليه الأجر - وهو مذهب الشافعي رضى الله تعالى عنه - لأن المنافع تلفت تحت يده باختياره فاستقر الضمان عليه كما لو تلفت العين في يد المشترى وكما لو كانت الإِجارة على مدة فمضت، وقال أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه: لا يستقر الأجر علمه حتَّى يستوفى المنفعة لأنَّهُ عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر بدلها قبل استيفائها كالأجر للأجير المشترك، فإن بذل تسليم العين فلم يأخذها المستأجر حتَّى انقضت المدة استقر الأجر عليه لأن المنافع تلفت باختياره في مدة الإِجارة فاستقر عليه الأجر كما لو كانت في يده، وإن بذل تسليم العين وكانت الإِجارة على عمل فقال أصحابنا إذا مضت مدة يمكن الاستيفاء فيها استقر عليه الأجر وبهذا قال الشافعي رضى الله تعالى عنه لأن المنافع تلفت باختياره. وقال أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه لا أجر عليه وهو أصح عندى لأنَّهُ عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه، ولأنه عقد على منفعة مؤقتة بزمن فلم يستقر عوضها بالبذل كالصداق إذا بذلت تسليم نفسها وامتنع الزوج من أخذها، وإن كان هذا في إجارة فاسدة ففيما إذا عرضها على المستأجر فلم يأخذها لا أجر عليه لأنها لم تتلف تحت يده ولا في ملكه، وإن قبضها ومضت المدة أو مضت مدة يمكن استيفاء


(١) المغنى للإمام موفق الدين أبى محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة على مختصر الإمام أبى القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقى جـ ٦ ص ١٤ وما بعدها إلى ص ١٦ في كتاب أسئلة الشرح الكبير على متن المقفع للشيخ الإمام شمس الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسى بتصحيح السيد محمد رشيد رضا الطبعة الأولى طبع مطبعة المنار بمصر سنة ١٣٤٧ هـ.