وفيها أيضا والامام أو القاضى اذا صالح شارب الخمر على أن يأخذ منه مالا ويعفو عنه لا يصح الصلح ويرد المال على شارب الخمر سواء كان ذلك قبل الرفع أو بعده.
ويخلص من هذا كله أن الحدود التى تتوقف على الدعوى وهى حد السرقة وحد القذف لا يصح العفو فيها بعد الرفع الى الحاكم الا أن يأتى المدعى بما يبطل الدعوى ويسقط الخصومة التى هى شرط فى اقامة الحد. كهبة المسروق للسارق أو ابرائه منه. وبعد الرفع لا يصح العفو فى الحد لأن الحد صار ثابتا وهو حق الله أو حق الله فيه غالب فلا يملك اسقاطه - والمراد من الرفع الوصول الى الحاكم والثبوت عنده كما يؤخذ مما قالوه فى الشفاعة.
والاسقاط فى حالة اتيان المدعى بما يبطل الدعوى - ليس واردا على نفس الحد فى الواقع بل هو وارد على الدعوى والمخاصمة وهى خالص حقه. ويترتب على ذلك سقوط الحد لفوات الشرط وهو المخاصمة.
أما ما لا يتوقف على الدعوى كحد الزنا وشرب الخمر فلا يصح اسقاطه قبل الرفع ولا بعده لأنه ليس هناك دعوى حتى ينصرف الاسقاط اليها - فتعين أن يكون واردا على نفس الحد وهو خالص حق الله فلا يملك العبد اسقاطه.
وفى جميع الأحوال لا يجب المال لأنه اذا لم يصح الاسقاط كان أخذا للمال بلا مقابل واذا صح الاسقاط كان اسقاطا لحق الخصومة وهو حق مجرد لا يصح أخذ العوض عنه. فأخذ المال فى الحالين بغير حق وأكل لأموال الناس بالباطل وهو حرام.
أما عند الائمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد فأنه لا يجوز العفو مطلقا فى الحدود الخالصة لله تعالى وهى حد الزنى وشرب الخمر لا قبل الرفع الى الحاكم ولا بعده لأن المعتدى عليه فيهما هو حق الله تعالى أو بحسب التعبير الجارى هو المجتمع ولا مجنى عليه فى الحقيقة سواه. ولا يملك أحد أن يبطل حق الله ولا حق المجتمع.
أما حد السرقة وحد القذف فان الحق الشخصى ثابت وظاهر فيهما بلا ريب. اذ الأول اعتداء على مال الشخص وأمنه والثانى اعتداء على سمعته وكرامته فيتصور فيهما العفو. والعفو قبل الترافع الى القضاء يجوز فى حد السرقة بالاتفاق. واذا كان العفو فلا دعوى ولا عقوبة.
وقد كان بعض الصحابة وكثير من الفقهاء يستحسنون الشفاعة لدى المجنى عليه قبل الترافع فيها الى الحاكم ليكون العفو منه عملا بقوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ»(١) ولأنه من قبيل الستر. وستر الجرائم مستحسن دائما فى الاسلام اذ الجريمة المعلنة تدعو الى