وأفتى ورأيه بخلاف رأى المفتى فانه يعمل برأى نفسه ان كان من أهل الرأى فان ترك رأيه وقضى برأى المفتى لم يجز عندهما كما فى التحرى وعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى ينفذ لمصادفته فصلا مجتهد فيه فان لم يكن له رأى وقت القضاء وقضى برأى المفتى ثم حدث له رأى بخلافه قال محمد رحمه الله تعالى ينقضه هو وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا ينقضه كما لو قضى برأيه ثم ظهر له رأى آخر كذا فى التتار خانية وفيما لا نص فيه يخالفه، ولا اجماع لا يخلو أما أن يكون القاضى من أهل الاجتهاد وأما أن لم يكن من أهل الاجتهاد فان كان من أهل الاجتهاد وأفضى رأيه الى شئ يجب عليه العمل برأيه وان خالف رأى غيره من أهل الاجتهاد والرأى ولا يجوز أن يتبع رأى غيره لأن ما أدى اليه اجتهاده هو الحق عند الله تعالى ظاهرا ولو أفضى رأيه الى شئ وهناك مجتهد آخر أفقه منه له رأى آخر فأراد أن يعمل برأيه من غير النظر فيه ويرجح رأيه لكونه أفقه منه هل يسعه ذلك ذكر فى كتاب الحدود أن عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى يسعه ذلك وعند أبى يوسف ومحمد رحمه الله تعالى لا يسعه الا أن يعمل برأى نفسه وذكر فى بعض الروايات هذا الاختلاف على العكس وان أشكل عليه حكم الحادثة استعمل رأيه فى ذلك وعمل به والأفضل أن يشاور أهل الفقه فى ذلك فان اختلفوا فى حكم الحادثة نظر فى ذلك فأخذ بما يؤدى الى الحق ظاهرا وان اتفقوا على رأى يخالف رأيه عمل برأى نفسه أيضا لكى لا ينبغى أن يعجل بالقضاء ما لم يعص حق التأويل والاجتهاد منكشف له وجه الحق فاذا ظهر له الحق باجتهاده قضى بما يؤدى اليه اجتهاده ولا يكون خائفا فى اجتهاده بعد ما بذل مجهوده لاصابة الحق حتى لو قضى مجازفا لم يصح قضاؤه فيما بينه وبين الله تعالى وان كان من أهل الاجتهاد الا أنه اذا كان لا يدرى حاله يحمل على أنه قضى برأيه ويحكم بالصحة حملا لأمر المسلم على الصحة والسداد ما أمكن هذا اذا كان القاضى من أهل الاجتهاد فأما اذا لم يكن من أهل الاجتهاد فان عرف أقاويل أصحابنا وحفظها على الأحكام والاتقان عمل بقول من يعتقد قوله حقا على التقليد وان لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه فى بلده من أصحابنا وان لم يكن فى البلد الا فقيه واحد من أصحابنا يسعه أن يأخذ بقوله ونرجو أن لا يكون عليه شئ كذا فى البدائع.
وفى الحطاب (١): قال القرافى فى شرح المحصول قال سيف الدين اذا تبع العامى مجتهدا فى حكم حادثة وعمل بقوله اتفقوا على أنه ليس له الرجوع فى ذلك الحكم واختلفوا فى رجوعه الى غيره فى غير ذلك الحكم واتباع غيره فيه فمنع وأجيز وهو الحق نظر الى اجماع الصحابة رضى الله تعالى عنهم فى تسويغهم للعامى الاستفتاء لكل عالم فى مسألة ولم ينقل عن السلف الحجر فى ذلك على العامة ولو كان ذلك ممتنعا لما جاز للصحابة اهماله والسكوت عن الانكار عليه ولأن كل مسألة لها حكم نفسها فكما لم يتعين الأول للاتباع فى المسألة الأولى الا بعد سؤاله فكذلك فى المسألة الأخرى، وأما اذا عين العامى مذهبا معينا كمذهب الشافعى وأبى حنيفة وقال أنا على مذهبه وملتزم له فجوز قوم اتباع غيره فى مسألة من المسائل نظرا الى أن التزام ذلك المذهب غير ملزوم له ومنعه آخرون لأن التزامه ملزوم له كما لو التزمه فى حكم حادثة معينة والمختار التفصيل وهو أن كل مسألة من مذهب الأول ان اتصل عمله بها فليس له تقليد الغير فيها وما لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره وكان الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يذكر فى هذه المسألة اجماعين:
أحدهما اجماع الصحابة المتقدم ذكره.
والثانى اجماع الأمة على أن من أسلم لا يجب عليه اتباع امام معين بل هو مخير فاذا قلد اماما معينا وجب أن يبقى ذلك التخيير المجمع عليه حتى يحصل دليل على رفعه لا سيما الاجماع لا يدفع الا بما هو مثله من القوة انتهى كلام القرافى.
(١) انظر مواهب الجليل لسيدى أبى الضياء خليل للحطاب وبهامشه التاج والاكليل للمواق ج ١ ص ٣٢ وما بعدها الطبعة السابقة.