للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفى الأحكام لابن حزم (١) الظاهرى ان سأل العامى فقيهين فصاعدا فاختلفوا عليه فان الذى نقول به أنه أفتاه فقيهان فصاعدا بأمور مختلفة نسوبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غير فاسق بتركه قبول شئ منها، لأنه انما يلزمه ما ألزمه النص فى تلك المسألة وهو لم يدره بعد، فهو غير آثم بتركه ما وجب بما لم يعلمه حتى يعلمه لكنه بتركهم يسأل غيرهم، ويطلب الحق، وذلك كما اذا سأل رجل كيف أحج؟ فقال له فقيه: أفرد فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجته التى لم يكن له بعد الهجرة غيرها وقال آخرون: أقرن، فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجته التى لم تكن له بعد الهجرة غيرها.

وقال له آخر: تمتع، فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجته التى لم يكن له بعد الهجرة غيرها، ففرض عليه أن يتركهم ويستأنف سؤال غيرهم ثم يلزمه ما قلنا آنفا قبل هذا من موافقته للحق أو حرمانه اياه بعد اجتهاده ويكون العامى حينئذ بمنزلة عالم لم يبن له وجه الحكم فى مسألة ما.

اما بتعارض أحاديث أو آى أو أحاديث وآى فحكمه التوقف والتزيد من الطلب والبحث حتى يلوح له الحق. أو يموت وهو باحث عن الحق عالى الدرجة فى كلا الأمرين.

ولا يؤاخذه الله تعالى بتركه أمرا لم يلح له الحق فيه لما قدمنا قبل من أن الشريعة لا تلزم الا من بلغته وصحت عنده والأصل اباحة كل شئ بقول الله تبارك وتعالى «خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} (٢).

وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعظم الناس جرما فى الاسلام من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته).

والأصل أن لا يلزم أحدا شئ الا بعد ورود النص وبيانه بقول الله تبارك وتعالى «لا تَسْئَلُوا ٣ عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ»

وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو قلتها لوجبت فاتركونى ما تركتكم».

وبقول النبى صلى الله عليه وسلم فى قيام رمضان «خشيت أن يفرض عليكم فمن علم أن عليه الحج ولم يدر كيف يقيمه فلا يؤاخذ من تركه ما وجب عليه من عمل الحج الا بما علم لا بما لا يعلم، ولكن عليه التزيد فى البحث حتى يدرى كيف يعمل ثم حينئذ يلزمه الذى علم ولا يؤاخذ الله تعالى أحدا بشئ لم تقم عليه الحجة ولا صح عنده وجهه، لأنه لم يبلغه ذلك الحكم.

قال الله تبارك وتعالى «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ٤» وأما من قال: ان الفرض على العامى أن يقبل ما أفتاه به الفقيه ولم يفسر كما فسرنا - فقد أخطأ.

ويرى الظاهرية (٥): أن على المستفتى - وهو العامى أن يجتهد واجتهاده اذا سأل العالم عن أمور دينه فأفتاه - أن يقول له: هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فان قال له نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، وان قال له: لا، أو قال له: هذا قولى، أو قال له هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبى حنيفة أو أبى يوسف أو الشافعى، أو أحمد أو داود أو سمى له أحدا من صاحب أو تابع فمن دونهم غير النبى صلى الله عليه وسلم


(١) انظر كتاب الأحكام فى أصول الأحكام للحافظ‍ أبى على بن حزم الاندلسى الظاهرى ج‍ ٦ ص ١٦٠ طبع مطابع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة ١٣٤٥ هـ‍ مكتبة الخانجى بمصر.
(٢) الآية رقم ٢٩ من سورة البقرة.
(٣) الآية رقم ١٠١ من سورة المائدة.
(٤) الآية رقم ١٩ من سورة الأنعام.
(٥) انظر فى الأحكام فى أصول الأحكام للحافظ‍ بن أبى محمد على بن حزم الاندلسى الظاهرى ج‍ ٦ ص ١٥٢ وما بعدها الطبعة السابقة.