قال الشيخ ينظر ان كان منتسبا الى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضى حسين فى أن العامى هل له مذهب أم لا.
أحدهما لا مذهب له لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتى من شاء من حنفى وشافعى وغيرهما.
والثانى وهو الأصح عند القفال له مذهب فلا يجوز له مخالفته وقد ذكرنا فى المنتسب ما يجوز له أن يخالف امامه فيه وان لم يكن منتسبا بنى على وجهين حكاهما ابن برهان فى أن العامى هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه فى العصر الأول أن يخص بتقليده عالما بعينه، فعلى هذا هل له أن يستفتى من شاء أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب وأصحها أصلا ليقلد أهله فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين فى البحث عن الأعلم والأوثق من المفتين.
والثانى يلزمه وبه قطع أبو الحسن الكيا وهو جار فى كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم ووجهه أنه لو جاز اتباع أى مذهب شاء لأفضى الى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز ذلك يؤدى الى انحلال ريقة التكليف بخلاف العصر الأول فانه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذبة وعرفت فعلى هذا يلزمه أن يجتهد فى اختيار مذهب يقلده على التعيين ونحن نمهد له طريقا يسلكه فى اجتهاده سهلا فنقول أولا ليس له أن يتبع فى ذلك مجرد التشهى والميل الى ما وجد عليه أباءه وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضى الله تعالى عنهم وغيرهم من الأولين.
وان كانوا أعلم وأعلا درجة ممن بعدهم لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر وانما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة المناحلين لمذاهب الصحابة والتابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها الناهضين بايضاح أصولها وفروعها كمالك وأبى حنيفة وغيرهما.
ولما كان الشافعى قد تأخر عن هؤلاء الأئمة فى العصر ونظر فى مذاهبهم نحو نظرهم فى مذاهب من قبلهم فسبرها وخبرها وانتقدها واختار أرجحها ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التصوير والتأصيل فتفرغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال معرفته وبراعته فى العلوم وترجحه فى ذلك على من سبقه ثم لم يوجد بعده من بلغ محله فى ذلك كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد وهذا مع ما فيه من الانصاف والسلامة من القدح فى أحد من الأئمة جلى واضح اذا تأمله العلمى قاده الى اختيار مذهب الشافعى والتمذهب به.
وفى روضة (١) الناظر: اتفقوا على أن المجتهد اذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم لم يجز له تقليده غيره وعلى أن العامى له تقليد المجتهد.
فأما المتمكن من الاجتهاد فى بعض المسائل ولا يقدر على الاجتهاد الا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كالنحو فى مسألة نحوية وعلم صفات الرجال فى مسألة خبرية فالأشبه أنه كالعلمى فيما لم يحصل علمه فانه كما يمكنه تحصيله فالعامى يمكنه ذلك مع المشقة التى تلحقه.
انما المجتهد الذى صارت العلوم عنده حاصلة بالقوة القريبة من الفعل من غير حاجة الى تعب كثير بحيث لو بحث عن المسألة ونظر فى الأدلة استقل بها ولم يفتقر الى تعلم من غيره.
فهذا المجتهد هل يجوز له تقليد غيره قال أصحابنا ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت ولا سعته لا فيما يخصه ولا فيما يفتى به لكن يجوز له أن ينقل للمستفتى مذهب الأئمة كأحمد والشافعى
(١) انظر روض الناظر. شرح نزهة الناظر الخاطر العاطر للأستاذ الشيخ عبد القادر بن أحمد ج ٢ ص ٣٣٧، ص ٤٣٨، ٤٣٩، ٤٤١، ٤٤٢، ٤٤٣ طبع مطابع المطبعة السلفية بمصر سنة ١٣٤٢ هـ.