للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا الدليل قد تمسك به الشافعى فى الرسالة كما ذكره الإسنوى وغيره، وقد دارت فيه مناقشات كثيرة بين مثبتى حجية الإجماع ومنكريها تجدها مفصلة فى كتب الأصول كالأحكام للآمدى، ومسلم الثبوت وشرحه، وإرشاد الفحول وغيرها، وحسبنا أن نذكر بعضها على سبيل المثال، فمن ذلك قول المنكرين للحجية: لا نسلم أن المراد بسبيل المؤمنين فى الآية هو إجماعهم، لاحتمال أن يكون المراد سبيلهم فى متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو فى مناصرته، أو فى الاقتداء به، أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال (١).

ولمثل هذا الاعتراض قرر بعض العلماء القائلين بالحجية أن دلالة الآية محتملة، فالغزالى يقول: «والذى نراه أن الآية ليست نصا فى الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاققه ويتبع غير سبيل المؤمنين فى مشايعته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل.

ولو فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية بذلك لقبل (٢)».

والحسين بن القاسم الزيدى يقول:

والاحتجاج المأخوذ من هذه الآية الكريمة ظنى، لأنه معترض عليه بوجوه، منها - وهو أقواها - جواز أن يريد سبيلهم فى مطاوعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وترك مشاقته، أو فى مناصرته، أو فى التأسى به فى الأعمال، أو فيما صاروا به مؤمنين، وهو الإيمان بالله ورسوله، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع، لأن غيره من أدلة التمسك لا يخلو عن قدح، فلو أثبتت حجية الإجماع به لزم الدور، وإثبات الأصل الكلى بدليل ظنى لا يجوز (٣).

الآية الثانية قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ٤»، ووجه الاستدلال بها «أن الله تعالى عدل هذه الأمة، لأنه تعالى جعلهم وسطا، والوسط‍ من كل شئ أعدله، قال الله تعالى «قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ٥» أى أعدلهم.

وقال الجوهرى: «الوسط‍ من كل شئ أعدله، ومنه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» أى عدولا وقد علل الله تعالى جعلهم وسطا بأن يكونوا شهداء على الناس، والشاهد لا بد أن يكون عدلا، وهذا التعديل الحاصل للأمة وإن لزم منه تعديل كل فرد منها بالضرورة، لكون نفيه عن واحد يستلزم نفيه عن المجموع، لكنه ليس المراد تعديلهم فيما ينفرد به كل واحد منهم، لأنا نعلم بالضرورة خلافه، فتعين


(١) إرشاد الفحول ص ٧١.
(٢) المستصفى ج‍ ١ ص ١٧٥.
(٣) ص ٤٩٩، ٥٠٠ من هداية العقول فى أصول الزيدية.
(٤) سورة البقرة: ١٤٣.
(٥) سورة القلم: ٢٨.