صدقت .. ولكن ننظر في الأمر ولم يقل أحد منهم أنه لا حاجة إلى إمام يقوم بهذا الأمر وهو الدين - بل صدقوه وقبلوه .. واشتغلوا باختيار الإمام عن أهم وأقدس الواجبات وهو موراء جثمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى قبره ..
وانتهى الأمر باختيار أبى بكر ومبايعته بالخلافة .. فكان ذلك إجماعًا من الصحابة رضوان الله عليهم على أنه لابد للمسلمين من إمام يقوم بأمر الدين ..
وكأنهم قالوا: إن نصب الإِمام واجب شرعا وتابعهم على الإِجماع التابعون ومن بعدهم .. ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر … وأقام الفقهاء والمتكلمون بالدليل على وجوب الإِمامة ونصب الإِمام وتعيينه من الإِجماع والكتاب والسنة والقواعد الشرعية المقررة ..
ثم فصل الفقهاء أحكام الإِمامة في التعدد والإِنفراد وطرق الاختيار والتعيين والتغلب والقهر والقول والاستقالة والشروط المتغيرة والحقوق والواجبات ومناهج السير والاختصاص وغير ذلك وبينوا أحكام ذلك كله في الدين والشريعة وأقاموا الأدلة على هذه الأحكام، وهذا من بين الدلائل على أن الخلافة نظام دينى أتى به الدين وبين أوضاعه ..
وقد أجمعوا على تعريف الإِمامة أنها نيابة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صاحب الشريعة في حفظ الدين وإقامة أحكامه وشعائره وتنفيذ أحكامه وحدوده وسياسة أمور المسلمين وشئونهم بمقتضى مبادئه .. وهو كما ترى ينطق بأن الخلافة من أمور الدين متلبسة به قائمة على أساسه ..
وقد نقلنا أن أهل السنة والمعتزلة والخوارج يرون أن الخلافة نظام دينى أتى به الدين ورسم مناهجه وأوضاعه وأن الشيعة بجميع فرقهم ومذاهبهم يرون أن الخلافة أركن في الدين وأصل فيه لا يتم الإِيمان إلا بالاعتقاد بها ولا يجوز تقليد الغير من الآباء والمعلمين والمقيد فيها.
بل يجب النظر فيها كما ينظر في التوحيد والنبوة، ولا تثبت باختيار البشر وتعيينهم بل بالنص من الله تعالى على الخليفة وأنها امتداد للنبوة واستدامة لها ..
وفى هذا يقول الإمام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية (١):
يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين .. بل لا يقام الدين إلا بهذه الولاية فإن بنى آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع في مجتمع يضمهم لحاجة بعضهم إلى بعض .. ولابد عند الاجتماع من رأس يقوم عليهم ويلى أمرهم حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم - وروى الإِمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم - فأوجب - صلى الله عليه وسلم - تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع ..
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصرة المظلوم وإقامة الحدود كلها لا تتم إلا بالقوة والإِمارة ..
(١) السياسة الشرعية لابن تيمية ص ٧٧.