للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله .. فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ..

فالمقصود بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا .. وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر الدنيا ..

يقول ابن خلدون في مقدمته (١): لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضرورى للبشر ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما آثار النصب والحيوانية كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق مجحفة بمن تحت يده من الخلق في دنياهم لحمله إياهم ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته .. ويختلف ذلك باختلاف المقاصد .. فتعسر طاعته لذلك وتجئ العصبية المفضية إلى الهرج والقتل .. فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها ..

وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها. سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرًا مقدورًا ..

فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سلاسة عقلية ..

وإذا كانت سياسة مفروضة من الله يشارع ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا والآخرة ..

وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط .. بل المقصود بهم إنما هو دينهم المفضى بهم إلى السعادة في آخرتهم فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعى لاجتماع الإنسانى فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطا بنظر الشارع ..

فما كان منه بمقتضى القهر والغلبة وإهمال القوة العصبية فجور وعدوان وهو مذموم كما هو مقتضى الحكمة السياسية وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضًا لأنه نظر بغير نور الله.

ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور - لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور الآخرة .. وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم وآخرتهم ..

قال - صلى الله عليه وسلم -: إنما هي أعمالكم ترد عليكم - وأحكام السياسة إنما تقتصر على مصالح الدنيا فقط.

ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم. فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم. وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء ..

فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة وأنها هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعى في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة .. فهى في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسلاسة الدنيا به .. فابن خلدون .. يرى كما يرى الفقهاء والمتكلمون أن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا ومصالح الناس فيها بالدين لأن أحوال الدنيا - كما يقول:

ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة - فإذا قامت في الناس خلافة فهى خلافة


(١) مقدمة ابن خلدون ص ١٦٩ وما بعدها طبع مطبعة الشعب.