للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لهم، ولم يحصل عليهم كل ما ينبغى أن يفعلوا وكل ما ينبغى أن يتركوا .. وإنما ترك لهم عقولا تستبصر وقلوبا تستذكر وأذن في أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة والمصلحة الخاصة ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ..

ويريد الدكتور بعد ذلك أنه بعد فترة الصاحبين أبى بكر وعمر التي سارا فيها سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما استطاعا والتي لم تكن هذه السيرة قادرة على البقاء حتى تعتبر من طباع الناس. بعد هذه الفترة دخل العنصر الإِنسانى مع الخلافة وتصرف بمقتضى العقل والحرية التي منحها الدين لأتباعه وترك لهم عقولا تنظر وقلوبا تفقه واستجابت الخلافة لهذا العنصر فتحولت عما كانت عليه في تلك الفترة وصارت إلى حياة الناس وما فيها من خير وشر ..

ويقول الدكتور طه حسين (١): ربما كان من أصدق الأدلة على أنه ليس في الإسلام نظام سياسى أن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيما مجملا مفصلا، وإنما أمر بالعدل والإِحسان وإيتاء ذى القربى .. ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغى ورسم للمسلمين حدودا عامة وترك لهم تدبير أمورهم كما يحبون على أن لا يتعدوا هذه الحدود.

والنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يرسم بسنته نظاما معينا للحكم ولا للسياسة ولم يستخلف على المسلمين أحدًا من أصحابه بعهد مكتوب أو غير مكتوب حين ثقل عليه المرضى ..

وإنما أمر أبو بكر أن يصلى بالناس فقال المسلمون: رضيه رسول اللّه لأمور ديننا .. فما يمنعنا أن نرضاه لأمور دنيانا .. ولو كان للمسلمين نظام سياسى منزل من السماء لرسمه القرآن ولبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصوله، ولفرض على المسلمين الإِيمان والإذعان له ..

وليس أقل من هذا نظرا أن أمر الخلافة قام على البيعة فأصبحت الخلافة عقدا بين الحاكمين والمحكومين يعطى الخلفاء من أنفسهم أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل وأن يراعوا مصالحهم وأن يسيروا فيهم سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وسعهم ذلك .. ويعطى المسلمون من أنفسهم العهد أن يسمعوا ويطيعوا وأن ينصحوا ويعينوا ..

ويقول (٢): أن الخلافة نظام عربى إسلامى خالص لم تسبق إليه العرب ثم لم يقلدوا فيه بعد ذلك ..

والحكم الإِسلامى إن لم يكن دنيويا أو دينيا .. إلا أن الخلافة قامت على عنصر إضافى تأثر بالدين إلى حد بعيد جدا .. ثم على عنصر الارستقراطية القرشية .. وواضح جدًّا أن هذين العنصرين لم يكن من شأنهما أن يطاولا مرَّ الدهر وتقلب الخطوب، وتتابع الأحداث ..

ولو قد كان للمسلمين هذا اللنظام المكتوب لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو خلافة .. والقرآن لم يعرض لشئ من هذا ..

ولو قد وضع هذا اللنظام لما تفرق المسلمون بعد مقتل عثمان على النحو الذي عرفه التاريخ ..

ولما ذهب فريق من المسلمين مذهب المحافظة الهوجاء على سنة النبي والشيخين وهم الخوارج ..

وفريق آخر مذهب المحافظة على أن تكون


(١) نفس المصدر ص ٢٥ وما بعدها.
(٢) الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين ص ٣٢ - ٤٢.