لا يؤمنون بقيام هذه الصلة إلا أن يفصل في وقائع الحياة ويحصر جزئياتها ويستوعب أحداثها حدثا حدثا ويضع لكل واقعة ولكل جزئية ولكل حدث حكما خاصا ..
ودون ذلك يبقى بعيدا عن الحياة ولا يكون قد التقى بها، وهيهات هيهات أن يقوم في الناس تشريع سماوى أو وضعى على هذا النحو .. بل إن ذلك لمن المحال.
فإن الوقائع والجزئيات والأحداث متجددة في حلاة الناس ما دامت الحياة ومتوالية مع الزمان ما دام الزمان لا يمكن أن تنقطع ولا أن تقف عند حد إلا أن ينتهى العالم وتنتهى معه الحياة بأحداثها، وإذا وقع في خيال أن يقوم في الناس تشريع على هذا النحو فإنه يكون عبثا لا غناء فيه ويقف جامدًا لا يستطيع مسايرة الحياة ..
إن القرآن الكريم قد نزل في نحو عشرين سنة، وكان معظم ما نزل منه بمكة - كليات الشريعة من تقويم العقائد وإصلاح الأخلاق والعادات إذ نجد السور المكية مليئة بالدعوة إلى الله ورسوله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وإقامة الحجج والبراهين على ذلك، ودفع شبه الجاحدين والأمر بالنظر في ملكوت السموات والأرض والاعتبار بقصص الأمر الخالية، وإيفاء الكيل والميزان، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومحاربة المزاعم الباطلة والعادات المرذولة والنهى عن العدوان، وقتل النفس والزنا .. وهناك وضعت القاعدة الاجتماعية السياسية وهى قاعدة الشورى والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ..
وبذلك اجتمع حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحول مقام الرسالة الكريم قوم مؤمنون يخالفون سائر القبائل العربية بعقائدهم وأخلاقهم وعاداتهم وآدابهم ..
وبعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة جعل الوحى السماوى يشرع أحكاما عملية، وأصولا اجتماعية، ومبادئ سياسية وأنظمة للحكم وقواعد لإقامة الدولة لا يسنها إلا من قصد إلى بناء دولة تسلك في قضائها وسياستها وأنظمتها شرعة خاصة ذات صبغة دينية تسير في هدى من نور الدين وعلى طريق من مبادئه وتعاليمه - فنرى في السور المدنية عقوبة السارق والزانى والقاذف والساعى في الأرض بالفساد وآيات الجهاد ونظام الحرب والأسرى، وآيات القضاء العادل وما يقوم عليه ويستند إليه من حجج وبينات ..
ثم الإرشاد إلى أصول المعاملات المدنية والتجارية مثل البيع والقرض والرهن والإجارة والوصية والتوكيل والحجر على القاصرين من سفيه أو يتيم والولاية والأهلية ..
ثم أحكام النكاح والطلاق والخلع والنفقات والمواريث والإصلاح بين الأفراد والجماعات ..
ثم المعاهدات والاتفاقات بين المسلمين وغير المسلمين في السلم والحرب، وشرعة الزكاة والجزية وموارد أخرى لأموال تصرف في حاجات ومصالح المسلمين .. يجب على الرئيس الأعلى تنظيمها والنظر في شأنها .. وشرع الحج …
ومن حكمه التلاقى والتعارف بين المسلمين والنظر والتشاور في مصالح الأمم الإسلامية قاطبة ..
ونجد مع هذا في السنة النبوية الصحيحة أصول الشركات ونظمها وأحكامها والشفعة والقسمة والمزارعة والمساقاة وإحياء الموات والهبة والعكس وغير ذلك مما جاء بيانا لما أجمله