النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة في الكتاب والسنة فشرع أحكاما عملية وأصولا اجتماعية ومبادئ سياسية وأنظمة للحكم وقواعد لإقامة الدولة لا بسنها إلا من قصد إلى بناء دولة تسلك في قضائها وسياستها وأنظمتها شرعة ذات صبغة دينية ..
ولقد أجمع المسلمون على أن من مقاصد الإسلام وأهدافه الأساسية إصلاح السياسة وإقامة دولة للمسلمين على أسس متينة وأن شارع الإسلام قد أتى بالمبادئ العامة في ذلك ووضع للدولة أصولا وأركانا يقوم عليها بناؤها ..
هذا قدر لم يخالف فيه أحد من السابقين .. ولكن لم يزعم أحد أن الإسلام قد رسم للسياسة خطة معينة محددة أو أنه وضع لكل واقعة حكما مفصلا …
وإنما الذي تفيض به كتب الفقهاء وأبحاث العلماء في جوانب التشريع والأصول ويهدى إليه كتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الشريعة فصلت بعض أحكام لا تختلف فيها أحوال البشر، ولا يؤثر فيها تغير أحوال الشعوب والأمم وعاداتها ولا اختلاف الأزمنة والأمكنة ثم وضعت الشريعة في جانب آخر أصولا عامة ومبادئ كلية ليسير الناس في تعرف الأحكام على هداها ..
ويراعى في تطبيق تلك الأحكام الأحوال والظروف وما تقتضيه مصالح الناس ويتمشى مع أعرافهم وعاداتهم ..
ومن تلك الأصول العامة القواعد الشرعية مثل قاعدة: "رعاية المصالح المرسلة" وقاعدة: "سد الذرائع" وقاعدة: "المشقة تجلب التيسير" وقاعدة: "دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة" وقاعدة: "العادة محكمة" وقاعدة: "ارتكاب أخف الضررين" وقاعدة: "الضرر يزال" وقاعدة: "ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورًا فهو واجب وغير ذلك من القواعد التي يتعرف عليها المجتهدون الراسخون في العلم من آيات القرآن الكريم كما انتزعوا قاعدة: "ارتكاب أخف الضررين" من مثل قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} وانتزعوا قاعدة سد الذرائع من مثل قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقد تكون القواعد نتيجة لاستقرار جانب من القرآن الكريم مع جانب من السنة الشريفة ..
أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله ..
والمقدار الذي يجب استقراؤه وتتبعه ليفيد القطع لدى المجتهد بأن هذا المعنى مقصود للشارع فيجعل قاعدة: موكول إلى أنظار المجتهدين والراسخين في العلم بروح التشريع لكثرة تدبرهم في النصوص وبحثهم فيما فصل الشارع من أحكام ..
فالشريعة عنيت في الأكثر بتفصيل ما لا تختلف فيه مصالح الأمم ولا يتغير الحكم فيه بتغير الزمان والمكان .. وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق والعبادات وما يتصل برسومها وآدابها وأوضاعها .. ثم جاءت إلى قسم المعاملات بأوسع معانيها والسياسات في جوانبها المختلفة فأتت فيها على شئ قليل من التفصيل وطوت سائره في أصول عامة وقواعد كلية لحكم ثلاث:
إحداها: أن أحكام هذا القسم تختلف بحسب ما يقتضيه حال الزمان وتطور الشعوب .. فإذا وقعت الواقعة أو عرضت الحاجة نظر العالم في منشئها وما يترتب عليها من أثر واستنبط لها حكمًا بقدر ما تسعه مقاصد الشريعة ومبادئها العليا ..