للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثانيها: أن وقائع المعاملات والسياسات تتجدد في كل حين والنص على كل جزئية غير متيسر كما قلنا. علاوة على أن تدوين الجزئيات وأحكامها يستدعى جهدًا كبيرًا وأسفارًا لا نهاية لها ولا فائدة للناس في حملها ..

ثالثها: أن الشريعة لا تريد الحجر على العقول ودستورها كتاب الله تعالى دعا العقول إلى النظر والبحث .. ونعى على التقليد والجمود .. ومن ثم فتح لها باب التمتع بالنظر في الأحداث والتسابق في الاجتهاد والبحث عن أحكامها ..

فإذا كان هذا هو مسلك الشارع الإسلامي في التشريع وكانت هذه الودائع هي التي حملته على هذا المسلك ..

فهل من الصواب أن يوجه إلى الشريعة أنها لم تعرض لكذا وكذا .. إن الشريعة ترشد إلى المصالح وتأمر بالعمل على تحقيقها ثم تترك وسائل تحقيق المصالح وإقامتها على الوجه المطلوب إلى اجتهادات العقول ..

ففى قاعدة الشورى وهى من قواعد النظام السياسى في الإسلام أرشد الإسلام إلى الشورى بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. } وقصد الشارع إلى إقامة هذه الشورى على وجه ينتفى الاستبداد بأمور الدولة ويجعل الحكام لا يقطعون أمرًا حتى تتناوله آراء أهل الحل والعقد ولكنه ترك النظر في وسائل وكيفية استطلاع الآراء إلى اجتهاد أولى الأمر وتقديرهم حسب الظروف فهم الذين يدبرون النظم التي يرونها أقرب وأكمل في استطلاع الرأى باقتراع سرى أو علنى بالكتابة أو بغيرها ولهم النظر في تعيين من يؤخذ رأيهم وكيفية تعيينهم وانتخابهم.

فالشريعة تحدثت في نظام السياسة وقواعد الحكم ونظمه ولكن بأسلوب أوتى جوامع الكلم وخطاب يفهمه ذوى العقول المفكرة والقلوب الباصرة والنظر النافذ ..

قال أبو إسحاق الشاطبى في الموافقات (١): "وكل دليل شرعى ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وُكِل إلى نظر المكلف ..

وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى .. وكل دليل ثبت في الكتاب مفيدًا غير مطلق وجعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدى لا يهتدى إليه نظر المكلف لو وُكِلَ إلى نظره .. إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها ..

وقال (٢): "واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم ..

وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعى يحكم به عليها ..

وقال شهاب الدين القرافى في قواعده: "إن الأحكام تجرى مع العرف والعادة .. وينتقل القضية بانتقالها ..

ومن جهل المفتى جموده على النصوص في الكتب غير ملتفت إلى تغير العرف ..

فإن القاعدة المجمع عليها أن كل حكم مبنى على عادة .. فإذا تغيرت العادة تغير الحكم


(١) الموافقات جـ ٣ ص ٢٢.
(٢) نفس المصدر.