للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والقول باختلاف الحكم عند تبدل الأحوال والعادات لا يستلزم القول بتغييره في أصل وضعه والخطاب، به وإنما الأمر تدعو إليه الحاجة عند قوم أو في عصر فيكون مصلحة وتتناوله دلائل الطلب .. فإن لم تقتضه عادتهم ولا تعلقت به مصلحتهم دخل تحت أصل من أصول الإِباحة أو التحريم".

وقال أيضا (١): إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع بل تشهد به القواعد ومن جملتها أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف حاله في العصر الأول .. ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع.

ومما يؤيد أن أحكام الشريعة تجرى بحسب اختلاف الزمان والمكان قول عز الدين بن عبد السلام في قواعده: "تحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات".

ولأجل ما بينته الشريعة من بناء الأحكام على رعاية المصالح اشترط جمهور الفقهاء والمتكلمون في الإمام أن يكون عالما بالغا رتبة الاجتهاد ..

وذلك يتحقق بمعرفة جملة القواعد التي نصبتها الشريعة والمتفقة في قسم عظيم من الأبواب التي فصلت الأحكام .. بالقدرة على استنباط الأحكام من أدلتها المبثوثة في الكتاب والسنة ..

وذلك يستدعى معرفة هذه الدلائل وطرق إثباتها وأنواع دلالتها وتفاوت مراتبها وأوجه الترجيح بينها عند التعارض.

وفى النظام السياسى ومبادئ الحكم قرر الإِسلام المبادئ الأساسية العامة لنظام حكم شامل يستهدف صالح الأمة ويكفل إقامة أوضاع الحكم فيها على خير مثال فقرر مبدأ العدل بين الناس جميعا أمام القانون في الحكم والقضاء وفى المعاملة والتكاليف العامة دون نظر إلى جنس أو لون أو دين أو نسب. وأمر به القرآن أمرًا عاما بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} حتى مع الخصوم والأعداء .. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

وجعل إقرار العدالة بين الناس غرضًا مقصودا من بعث الرسل وإنزال الشرائع {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.

وقرر مبدأ المساواة المطلقة بين المواطنين جميعا في الحقوق والواجبات وفى التطبيق والتنفيذ .. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على على أسود إلا بالتقوى".

وقرر مبدأ الشورى وأمر نبيه المعصوم بمشاورة أصحابه في غير ما يأتى به الوحى من شئون الأمة وأمورها المتصلة بالمصلحة العامة {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} .. {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فقرر بذلك مبدأ سيادة الأمة وسلطتها ومشاركتها في تحمل مسئولية الحكم ..

وقرر مبدأ المسئولية العامة مسئولية الحكام عن أعمالهم وتصرفاتهم في شئون الأمة ومصالحها أمام الأمة في الدنيا وأمام الله في


(١) التبصرة لابن فرحون جـ ٢ ص ١١٤.