للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفى اشتراط القرشية .. وعوّلوا على ظواهر في ذلك مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اسمعوا وأطيعوا وإن ولى عليكم عبد حبشى ذو زبيبة" وهذا لا تقوم به حجة في ذلك فإنه خرج مخرج التمثيل والفرض للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة ..

ومثل قول عمر رضى الله عنه: "لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا لوليته أولما دخلتنى فيه الظنة" وهو أيضا لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة .. وأيضا فإن مولى القوم منهم .. وعصبية الولاء حاصلة السالم في قريش .. وهى الفائدة في اشتراط النسب القرشى .. ولما استعظم أمر الخلافة ورأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر ..

ولم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه .. إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية .. وهى حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصا من عمر رضى الله عنه على النظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة ..

ومن القائلين بنفى اشتراط النسب القرشى القاضي أبو بكر الباقلانى لما أدرك ما عليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء .. فأسقط شرط القرشية وإن كان موافقا لرأى الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده .. وبقى الجمهور على القول باشتراط القرشية وصحة الإمامة للقرشى ولو كان عاجزًا عن القيام بأمور المسلمين .. وردَّ عليهم بأن هذا يستلزم سقوط شرط الكفاية في الخليفة وهى التي يقوى بها أمره لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضا إلى العلم والدين وسقط اعتبار شرط هذا المنصب .. وهو خلاف الإجماع ولنتكلم الآن في حكمة اشتراط النسب القرشى ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب فنقول:

إن الأحكام الشرعية كلها لابد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها .. ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشى ومقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصْلَة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو في المشهور .. وإن كانت تلك الوصْلة موجودة والتبرك بها حاصلا .. لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت فلابد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهى المقصودة من مشروعية هذا الاشتراط ..

وإذا سيرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الجماعة والمطالبة .. ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها ..

وذلك أن قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم .. وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف فكان سائر العرب يعترف لهم تنلك ويستكيفون لغلبهم ..

فلو جعل الأمر في سواهم لكان من المتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم .. ولا يقدر خيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم على الملَّة .. فتتفرق الجماعة وتختلف الكلمة ..