والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم ورفع التنازع والشقاق بينهم لتحصل اللحمة والعصبية وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف علمهم ولا فرقة لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة ..
وإذا انتظم كلمتهم بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب ..
وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحل أمر الخلافة وتلاشت عصبية العرب .. ويعلم من كان لقريش من الكثرة والتغلب على بطون مضر من مارسى أخبار العرب وسيرهم وتفطن لذلك في أحوالهم ..
وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السير وغيره ..
فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إلمها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهى وجود العصبية ..
فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولى عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية .. ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية ..
إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة .. ، وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة ..
وإذا نظرت إلى سر الله في الخلافة لم تعْدُ هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده وليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم والخليفة مخاطب بذلك، ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه ..
ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب (قيل هو الفخر الرازى) في شأن النساء وأنهن في كثير من الأحكام الشرعية جعلن تبعا للرجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع وإنما دخلن عنده بالقياس وذلك لما لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرجال قوامين عليهن .. اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم على نفسه فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس ..
ثم إن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم .. وقل أن يكون الأمر الشرعى مخالفا للأمر الوجودى .. والله تعالى أعلم ..
وجاء في شرح الدر المختار على تنوير الأبصار وحاشية ابن عابدين على هذا الشرح: "ويشترط في الإمام أن يكون مسلما حرًّا ذكرا عاقلا بالغا قادرًا قرشيا .. لأن الكافر لا يلى على المسلم .. قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} .. وولاية الإمام العام من أعظم السبيل .. ولأن العبد لا ولاية له على نفسه .. فكيف تكون له الولاية على غيره .. ولأن الولاية المتعدية فرع الولاية القائمة وليس للعبد ولاية قائمة .. وهو مستحقر في نظر العامة فلا يستطيع إنفاذ الأحكام ولا إقامة