للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما الشوكة والقدرة فغلط يرحمه الله فيها .. لأن عصبية مضر كانت في قريش .. وعصبية عبد مناف إنما كانت في بنى أمية .. تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه .. وإنما نُسِىَ ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحى وتردد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونسيت ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين .. والدين فيها محكم والعادة معزولة .. حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة ..

تراجع الحكم بعض الشئ للعوائد فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت .. وأصبحت مضر أطوع لبنى أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك من قبل .. لذلك غلط الحسين رضى الله عنه في ظنه الشوكة والقدرة لنفسه إلا أنه في أمر دنيوى لا يضره الغلط فيه ..

وأما الحكم الشرعى فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه .. وكان ظنه القدرة على ذلك .. وقد عزله (لامه) ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولكنه لم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله ..

وأما الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق، والتابعون لهم فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهَرْج (الفتنة والاضطراب) والدماء، فاقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين رضى الله عنه ولا أنكروا عليه ولا أثَّمُوه لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ..

وخلاصة ذلك أن الخروج على الإمام الفاسق الجائر مشروع عند وجود الشوكة والقدرة عليه ومع أمن الفتنة والاضطراب والدماء بين المسلمين ..

ويقول العلامة ابن حزم (١): "اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" ثم اختلفوا في كيفيته ..

فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضى الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل رضى الله عنه وغيره .. وهو قول سعد بن أبى وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ومحمد بن سلمة رضى الله عنهم وغيرهم.

ذهب هؤلاء إلى أن الغرض من ذلك - أي من إنكار المنكر - إنما هو بالقلب فقط ولابد أو باللسان إن قدر على ذلك .. ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ورفع السلاح أصلا .. وهو قول أبى بكر بن كيسان الأصم!!! وبه قالت الروافض كلهم .. ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق.

فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا .. واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضى الله عنه وبمن ذكرنا من الصحابة رضى الله عنهم وبمن رأى القعود منهم عن القتال .. إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلا وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإِمام العدل ..


(١) الفصل لابن حزم جـ ٤ ص ١٣٢ وما بعدها.