للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الضررين يصير واجبا نظرا إلى رفع أعلاهما، كإيجاب شرب الخمر على من غص بلقمة ونحو، ووجوب الضمان عليه بما يفسده عند الخروج لا يدل على حرمة الخروج، كما يجب على المضطر في المخمصة بما يتلفه بالأكل وإن كان الأكل واجبا وإن قدر انتفاء الترجيح بين الطرفين وذلك كما إذا سقط إنسان من شاهق على صدر صبى محفوفا بصبيان، وهو يعلم أنه إن استمر قتل من تحته وإن انتقل قتل من يليه، فيمكن أن يقال بالتخيير بينهما أو يخلو مثل هذه الواقعة عن حكم الشارع وهو أولى من تكليفه ما لا تصور له في نفس الطالب على ما حققناه، وهذا بخلاف ما إذا كان محالا باعتبار غيره فإنه يكون ممكنا باعتبار ذاته، فكان متصورا في نفس الطالب وهو واضح لا غبار عليه. فإن قيل: ما ذكرتموه من إحالة طلب الجمع بين الضدين بناء على عدم تصوره في نفس الطالب غير صحيح، وذلك لأنه لو لم يكن متصورا في نفس الطالب لما علم إحالته، فإن العلم بصفة الشئ فرع تصور ذلك الشئ، واللازم ممتنع؛ وإن سلم دلالة ما ذكرتموه إلا أنه معارض بما يدل على جواز التكليف بالجمع بين الضدين ووقوعه شرعا وبيانه قوله تعالى لنوح عليه السلام: "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " (١) أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يؤمن غير من آمن مع أنهم كانوا مكلفين بتصديق فيما يخبر به، ومن ضرورة ذلك تكليفهم بألا يصدقوه تصديقا له في خبره أنهم لا يؤمنون. وأيضا فإن الله تعالى كلف أبا لهب بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في إخباره، ومن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبا لهب لا يصدقه لإخبار الله تعالى لنبيه بذلك، فقد كلفه بتصديقه في إخباره بعدم تصديقه له، وفى ذلك تكليفه بتصديقه وعدم تصديقه، وهو تكليف بالجمع بين الضدين. قلنا: أما الإِشكال الأول فمندفع، وذلك لأن الجمع المعلوم المقصور المحكوم بنفيه عن الضدين إنما هو الجمع المعلوم بين المختلفات التي ليست متضادة، ولا يلزم من تصوره منفيا عن الضدين تصوره ثابتا لهما، وهو دقيق فليتأمل، وما ذكروه من المعارضة، فلا نسلم وجود الأخبار بعدم الإِيمان في الآيتين مطلقا. أما في قصة أبى لهب فغاية ما ورد فيه قول الله عز وجل: "سيصلى نارا ذات لهب" (٢) وليس في ذلك ما يدل على الإِخبار بعدم تصديقه للنبى مطلقا، فإنه لا يمتنع تعذيب المؤمن، وبتقدير امتناع ذلك أمكن حمل قوله تعالى "سيصلى نارا ذات لهب" على تقدير عدم إيمانه، وكذلك التأويل في قوله تعالى: "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" أي بتقدير عدم هداية الله تعالى لهم إلى ذلك. وذلك لا يدل على الإِخبار بعدم الإِيمان مطلقا، وإن سلمنا ذلك ولكن لا نسلم أنهم كلفوا بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر من عدم تصديقهم بتكذيبه، وهذا مما اتفق عليه نفاة التكليف بالجمع بين الضدين. وأما الطرف الثاني وهو بيان جواز التكليف بالمستحيل لغيره فقد احتج الأصحاب عليه بالنص والمعقول، أما النص فقوله تعالى: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به (٣) فقد سألوا دفع التكليف بما لا يطاق، ولو كان ذلك ممتنعا لكان مندفعا بنفسه ولم يكن إلى سؤال دفعه عنهم حاجة. فإن قيل إنما يمكن حمل الآية على سؤال رفع ما لا يطاق أن لو كان ذلك ممكنا وإلا


(١) الآية رقم ٣٦ من سورة هود.
(٢) الآية رقم ٣ من سورة المسد.
(٣) الآية رقم ٢٨٦ من سورة البقرة.