للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لتعذر السؤال بدفع ما لا إمكان لوقوعه كما ذكرتموه، وإمكانه متوقف على كون الآية ظاهرة فيه فيكون دورا، سلمنا كونها ظاهرة فيما ذكرتموه، ولكن أمكن تأويلها بالحمل على سؤال دفع ما فيه مشقة على النفس، وإن كان مما يطاق ويجب الحمل عليه لموافقته منا سنذكره من الدليل بعد هذا، سلمنا إرادة دفع ما لا يطاق، لكنه حكاية حال الداعين، ولا حجة فيه، سلمنا صحة الاحتجاج بقول الداعين، لكن لا يخلو إما أن يقال بأن جميع التكاليف غير مطاقة أو البعض دون البعض. الأول يوجب إبطال فائدة تخصيصهم بذكر ما لا يطاق. بل كان الواجب أن يقال لا يكلفنا، وإن كان الثاني فهو خلاف أصلكم، سلمنا دلالة ما ذكرتموه، لكنه معارض بقوله تعالى "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" (١) وهو صريح في الداب، وقوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين حرج" (٢) ولا حرج أشد من التكليف بما لا يطاق، والجواب عن السؤال الأول إن الآية بوصفها ظاهرة فيما لا يطاق فيجب تقدير إمكان التكليف به ضرورة حمل الآية على ما هى ظاهرة فيه حذرا من التأويل من غير دليل، وعن الثاني أنه ترك الظاهر من غير دليل. وعن الثالث أن الآية إنما وردت في معرض التقرير لهم والحث على مثل هذه الدعوات، فكان الاحتجاج بذلك لا بقولهم. وعن الرابع أنه وإن كان كل تكليف عندنا تكليفا بما لا يطاق غير أنه يجب تنزيل السؤال على ما لا يطاق وهو ما يتعذر الإِتيان به مطلقا في عرفهم دون ما لا يتعذر لما فيه من إجراء اللفظ على حقيقته وموافقة أهل العرف في عرفهم غايته إخراج ما لا يطاق مما هو مستحيل في نفسه لذاته من عموم الآية لما ذكرنا من استحالة التكليف به وامتناع سؤال الدفع للتكليف بما لا تكليف به. ولا يخفى أنه تخصيص، والتخصيص أولى من التأويل، وعن المعارضة بالآيتين أن غايتهما الدلالة على نفس وقوع التكليف بما لا يطاق. ولا يلزم من ذلك ففى الجواز المدلول عليه من جانبنا، كيف وإن الترجيح لما ذكرناه من الآية لاعتضادها بالدليل العقلى على ما يأتى، ومع ذلك فلا خروج لها عن الظن والتخمين، وربما احتج بعض الأصحاب بقوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" (٣) وهو تكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة، وإنما يصح الاحتجاج به إن أمكن أن يكون الدعاء في الآخرة بمعنى التكليف. وليس كذلك بالإجماع على أن الدار الآخرة إنما هي دار مجازاة لا دار تكليف. وأما من جهة المعقول فقد احتج فيه بعضهم بحجج واهية؛ الأولى منها: هو أن الفعل المكلف به إن كان مع استواء داعى العبد إلى الفعل والترك كان الفعل ممتنعا لامتناع حصول الرحجان معه، وإن كان مع الترجيح لأحد الطرفين كان الراجح واجبا والمرجوح ممتنعا، والتكليف بهما يكون محالا. الثانية: أن الفعل الصادر من العبد إما أن يكون العبد متمكنا من فعله وتركه أو لا يكون، فإن لم يكن متمكنا منه فالتكليف له بالفعل يكون تكليفا بما لا يطاق، وإن كان متمكنا منه فإما أن لا يتوقف ترجح فعله على تركه على مرجح أو يتوقف؛ الأول محال وإلا كان كل موجود حادثا هكذا، ويلزم منه سد باب إثبات


(١) الآية رقم ٢٨٦ من سورة البقرة.
(٢) الآية رقم ٧٨ من سورة الحج.
(٣) الآية رقم ٤٢ من سورة القلم.