للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لمخلوقه بالإِرادة. ويلزم من كونه مريدا له أن يكون عالما به ضرورة، والعبد غير عالم بجميع أجزاء حركاته في جميع حالاته ولا سيما في حالة إسراعه، فلا يكون خالقا لها. المسلك الثانى: أن إجماع السلف منعقد قبل وجود المخالفة من التنويه على أن الله تعالى مكلف بالإِيمان لمن علم أنه لا يؤمن، كمن مات على كفره، وهو تكليف بما يستحيل وقوعه؛ لأنه لو وقع لزم أن يكون علم البارى تعالى جهلا وهو محال فإن قيل: أما المسلك الأول وإن سلمنا أن العبد لا بد من أن يكون عالما بما يخلقه من أفعاله لكن من جهة الجملة أو من جهة التفصيل، الأول سبيل إلى نفيه، والثانى ممنوع، وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن العبد غير خالق لفعله لكنه معارض بما يدل على خلقه له، ودليله المعقول والمنقول؛ أما المعقول فهو أن قدرة العبد ثابتة بالإِجماع منا ومنكم على فعله؛ فلو لم تكن هي المؤثرة فيه لانتفى الفرق بين المقدور وغيره وكان المؤثر فيه غير العبد ويلزم منه وجود مقدور بين قادرين، ولما وقع الاختلاف بين القوى والضعيف، ولجاز أن يكون متعلقه بالجواهر والألوان، كما في العلم، ولكان العبد مضطرا بما خلق فيه من الفعل لا مختارا، ولجاز أن يصدر عن العبد أفعال محكمة بديعة وهو لا يشعر بها، ولما انقسم فعله إلى طاعة ومعصية لأنه ليس من فعله ولكان الرب تعالى أضر على العبد من إبليس، حيث إنه خلق فيه الكفر وعاقبه عليه، وإبليس داع لا غيره، ولما حسن شكر العبد ولازمه على أفعاله ولا أمره ولا نهيه ولا عقابه ولا ثوابه، ولكان الرب تعالى آمرا للعبد بفعل نفسه وهو قبيح معدود عند العقلاء من الجهل والحمق، ولكان الكفر والإيمان من قضاء اللّه تعالى وقدره وهو إما أن يكون حقا أو باطلا فإن كان حقا فالكفر حق وإن كان باطلا فالإيمان باطل، ولكان الرب تعالى إما راضيا به أو غير راض والأول يلزم منه الرضى بالكفر، والثانى يلزم منه عدحم الرضى بالإيمان، والكل محال مخالف للإجماع، وأما النقل، فقوله تعالى: "وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا" (١)، وقوله تعالى: "أم حسب الذين اجترحوا السيئات" (٢) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اعملوا وقاربوا وسددوا"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نية المؤمن خير من عمله" إلى غير ذلك من النصوص الدالة على نسبة العمل إلى العبد، والعقلاء متوافقون على إطلاق إضافة الفعل إلى العبد بقولهم: فلان فعل كذا وكذا والأصل في الإطلاق الحقيقة، وأما المسلك الثاني، فهو أن تعلق علم البارى تعالى بالفعل أو بعدمه، إما أن يكون موجبا لوجود ما علم وجوده، وامتناع وجود ما علم عدمه، أو لا يكون كذلك، فإن كان الأول فيلزمه محالات وهو أن يكون العلم هو القدرة أو أن يستغنى به عن القدرة ولا يكون الرب قادرا على إيجاد شئ أو عدمه، وألا يكون للرب اختيار ولا للعبد في وجود فعل من الأفعال لكونه واجبا بالعلم أو ممتنعا. وإن لم يكن موجبا للوجود ولا للعدم فقد بطل الاستدلال وإن سلم ذلك. لكنه معارض بما سبق من الأدلة العقلية والنقلية. والجواب عما ذكروه أولا على المسلك الأول بأن الفعل المخلوق للعبد بتقدير خلقه له مخلوق له بجميع أجزائه، وكل جزء منه مخلوق له بانفراده فيجب أن يكون عالما به لما سبق. وهذا هو العلم بالتفصيل وهو غير عالم لما حققناه. والجواب عما ذكروه من الإلزام الأول


(١) الآية رقم ٨٢ من سورة طه.
(٢) الآية رقم ٢١ من سورة الجاثية.