للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واختراعه، فكل عبد هو عنده مأمور بفعل الغير، واستدل على هذا بثلاثة أشياء؛ أحدها: قوله تعالى: "ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" (١) والمحال لا يسأل دفعه فإنه مندفع بذاته، وهو ضعيف لأن المراد به ما يشق ويثقل علينا إذ من أتعب بالتكليف بأعمال تكاد تفضى إلى هلاكه لشدتها كقوله تعالى: "اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم" (٢) فقد يقال حمل ما لا طاقة له به، فالظاهر المؤول ضعيف الدلالة في القطعيات. الثاني: قولهم إن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يصدق وقد كلفه الإِيمان، ومعناه أن يصدق محمدا فيما جاء به، ومما جاء به أنه لا يصدقه فكأنه أمره أن يصدقه في أن لا يصدقه وهو محال، وهذا ضعيف أيضا لأن أبا جهل أمر بالإِيمان بالتوحيد والرسالة والأدلة منصوبة، والفعل حاضر إذ لم يكن هو مجنونا فكان الإِمكان حاصلا، لكن الله تعالى علم أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا، فالعلم يتبع المعلوم ولا يغيره، فإذا علم كون الشئ مقدورا لشخص وممكنا منه ومتروكا من جهته مع القدرة عليه، فلو انقلب محالا لانقلب العلم جهلا ويخرج عن كونه ممكنا مقدورا، وكذلك نقول القيامة مقدور عليها من جهة الله تعالى في وقتنا هذا وإن أخبر أنه لا يقيمها ويتركها مع القدرة عليها وخلاف خبره محال إذ يصير وعيده كذبا ولكن هذه الاستحالة لا ترجع إلى نفس الشئ فلا ثؤثر فيه. الثالث: قولهم لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته أو لمعناه أو لمفسدة تتعلق به أو لأنه يناقض الحكمة ولا يستحيل لصيغته إذ لا يستحيل أن يقول "كونوا قردة خاسئين" (٣)، وأن يقول السيد لعبده الأعمى: أبصر، وللزمن: امش. وأما قيام معناه بنفسه فلا يستحيل أيضا إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكاننين ليحفظ ماله في بلدين، ومحال أن يقال إنه ممتنع للمفسدة أو مناقضته الحكمة، فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال، إذ لا يقبح منه شئ، ولا يجب عليه الأصلح، ثم الخلاف فيه وفى العباد واحد، والفساد والسفه من المخلوق ممكن فلم يمتنع ذلك مطلقا. والمختار استحالة التكليف بالمحال، ولا لقبحه ولا لمفسدة تنشأ عنه ولا لصيغته؛ إذ يجوز أن ترد صيغته ولكن للتعجيز لا للطلب، كقوله تعالى "كونوا حجارة أو حديدا" (٤)، وكقوله تعالى "كونوا قردة خاسئين"، أو لإظهار القدرة كقوله تعالى: "كن فيكون" (٥)، لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه، ولكن يمتنع لمعناه إذ معنى التكليف طلب ما فيه كلفة، والطلب يستدعى مطلوبا وذلك المطلوب ينبغى أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق فيجوز أن يقول تحرك إذ التحرك مفهوم، فلو قال له تحرك فليس بتكليف إذ معناه ليس بمعقول ولا مفهوم ولا له معنى في نفسه فإنه لفظ مهمل، فلو كان له معنى في بعض اللغات يعرفه الآمر دون المأمور، فلا يكون ذلك تكليفا أيضا لأن التكليف هو الخطاب بما فيه كلفة وما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطابا معه، وإنما يشترط كونه مفهوما ليتصور منه الطاعة لأن التكليف اقتضاء طاعة فإذا لم يكن في العقل طاعة لم يكن اقتضاء الطاعة متصورا معقولا إذ يستحيل أن يقوم بذات العاقل طلب


(١) الآية رقم ٢٨٦ من سورة البقرة.
(٢) الآية رقم ٥٤ من سورة البقرة.
(٣) الآية رقم ٦٥ من سورة البقرة.
(٤) الآية رقم ٥٠ من سورة الإسراء.
(٥) الآية رقم ٨٢ من سورة يس.