للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بها ليس على الحقيقة بل مجاز عن النفى، وليس ركن البيع - وهو مبادلة المال بالمال - مفقودا، ووجود الشئ من غير وجود الركن من المستحيلات التي لا تصلح لتعلق النهى بها (١).

وجاء في المستصفى أن المعتزلة ذهبت إلى أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال، وذهب القاضي وجماهير أهل الحق إلى أنه يعلم ذلك، وفى تفهيم حقيقة المسألة غموض، وسبيل كشف الغطاء عنه أن نقول: إنما يعلم المأمور كونه مأمورا مهما كان مأمورا لأن العلم يتبع المعلوم، وإنما يكون مأمورا إذا توجه الأمر عليه، ولا خلاف في أنه يتصور أن يقول السيد لعبده صم غدا وإن هذا أمر محقق ناجز في الحال وإن كان مشروطا ببقاء العبد إلى غد، ولكن اتفقت المعتزلة على أن الأمر المقيد بالشرط أمر حاصل ناجز في الحال، لكن يشترط أن يكون تحقيق الشرط مجهولا عند الآمر والمأمور، أما إذا كان معلوما فلا، فإنه لو قال صم إن صعدت إلى السماء أو إن عشت ألف سنة فليس هذا بأمر، أي هذه الصيغة ليست عبارة عن حقيقة المعنى الذي يقوم بالنفس ويسمى أمرا، ولو قال صم إن كان العالم مخلوقا أو كان الله موجودا فهذا أمر ولكن ليس بمقيد بشرط، وليس هذا الشرط في شئ فإن الشرط هو الذي يمكن أن يوجد ولا يوجد فلما كان العلم بوجود الشرط أو عدمه منافيا وجود الأمر المقيد بالشرط زعموا أن الله عالم بعواقب الأمر، فالشرط في أمره محال، ونحن نسلم أن جهل المأمور شرط، أما جهل الآمر فليس بشرط حتى لو علم السيد بقول نبى صادق أن عبده يموت قبل رمضان فيتصور أن يأمره بصوم رمضان مهما جهل العبد ذلك وربما كان له فيه لطف يدعوه إلى الطاعات ويزجره عن المعاصى، وربما كان لطفا لغير المأمور بحث أو زجر، وربما كان امتحانا له ليشتغل بالاستعداد فيثاب على العزم على الامتثال ويعاقب على العزم على الترك. والمعتزلة أحالوا ذلك وقالوا إذا شهد العبد هلال رمضان توجه عليه الأمر بحكم قوله تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" (٢) لكن ذلك بناء على ظن البقاء ودوام القدرة، فإن الحياة والقدرة شرط في التكليف، فإذا مات في منتصف الشهر بينا أنه كان. مأمورا بالنصف الأول وأنه لم يكن مأمورا بالنصف الثانى. ويدلك على بطلان مذهبهم مسالك؛ المسلك الأول: أن الأمة مجمعة قبل ظهور المعتزلة على أن الصبى كما يبلغ يجب عليه أن يعلم ويعتقد كونه مأمورا بشرائع الإِسلام منهيا عن الزنا والسرقة والقتل في الحال وإن لم يحضره وقت صلاة ولا زكاة ولا حضر من يمكن قتله والزنا به ولا حضر مال تمكن سرقته، ولكن يعلم نفسه مأمورا منها بشرط التمكن لأنه جاهل بعواقب أمره وعلمه بأن الله تعالى عالم بها لا يدفع عنه وجوب هذا الاعتقاد. المسلك الثاني: أن الأمة مجمعة على أن من عزم على ترك ما ليس منهيا عنه فليس بمتقرب إلى الله تعالى، ومن عزم على ترك المنهيات والإِتيان بالمأمورات كان متقربا إلى الله تعالى وإن احتمل أن لا يكون مأمورا أو منهيا لعلم الله تعالى بأنه لا يساعده التمكن فينبغى أن نشك في كونه متقربا ونتوقف ونقول إن مت بعد هذا العزم وقبل التمكن فلا ثواب لك لأنه لا تقرب منك، وإن عشت وتمكنت تبينا عند ذلك


(١) فواتح الرحموت لعبد العلى محمد بن نظام الدين الأنصاري بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه للإمام المحقق الشيخ محب الله بن عبد الشكور جـ ١، ص ٣٩٩ في كتاب أعلاه المستصفى من علم الأصول للإمام حجة الإسلام أبى حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالى الطبعة الأولى طبع المطبعة الأميرية بمصر سنة ١٣٢٢ هـ.
(٢) الآية رقم ١٨٥ من سورة البقرة.