للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويرد على الشبهة الثانية التي تمسك بها القائلون بالندب وهى قوله عليه السلام: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فانتهوا" ففوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وجزم في النهى بطلب الانتهاء: فقال: هذا اعتراف بأنه من جهة اللغة والوضع للندب واستدلال بالشرع ولا يثبت مثل ذلك بخبر الواحد لو صحت دلالته. كيف ولا دلالة له إذ لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال ما استطعتم كما قال: "فاتقوا الله ما استطعتم" وكل إيجاب مشروط بالاستطاعة.

وأما قوله: "فانتهوا" كيف دل على وجوب الانتهاء وقوله "فانتهوا" صيغة أمر وهو محتمل للندب (١).

وأما شبهة الصائرين إلى أن الأمر للوجوب فقد اعتبر في إبطالها جميع ما ذكره في إبطال مذهب الندب وأضاف إلى هذا:

أن الندب داخل تحت الأمر حقيقة ولو حمل على الوجوب لكان مجازًا في الندب وكيف يكون مجازًا فيه مع وجود حقيقته إذ حقيقة الأمر ما يكون ممتثله مطيعًا والممتثل مطيع بفعل المندوب.

وأوضح ما أجمله في هذا الرد فقال:

قولهم إن المأمور في اللغة والشرع جميعًا يفهم وجوب المأمور به حتى لا يستحق الذم والعقاب عند المخالفة ولا الوصف بالعصيان وهو اسم ذم ولذلك فهمت الأمة وجوب الصلاة والعبادات ووجوب السجود لآدم بقوله {اسْجُدُوا}.

ورده على ذلك أن هذا كله نفس الدعوى وحكاية المذهب وليس شئ منه مسلمًا وكل ذلك علم بالقرائن فقد تكون للآمر عادة مع المأمور وعهد وتقترن به أحوال وأسباب بها يفهم الشاهد الوجوب واسم العصيان لا يسلم إطلاقه على وجه الذم إلا بعد قرينة الوجوب لكن قد يطلق لا على وجه الذم كما يقال أشرت عليك فعصيتنى وخالفتني (٢).

وقال: إنهم يقولون إن الإيجاب من المهمات في التخاطب فإن لم يكن افعل مثلًا عبارة عنه فلا يبقى له ما يدل عليه ومحال أن يهمل العرب ذلك.

ورد ذلك بأنه منقوض بالمندوب فإن الندب أمر مهم أيضًا فليكن افعل عبارة عنه كذلك.

ومن الشبه التي استندوا إليها أيضًا أن قولة افعل إما أن تفيد المنع أو التخيير أو الدعاء فإذا بطل التخيير والمنع تعين الدعاء والإيجاب ورد عليها بأنه يبقى قسم رابع وهو أن لا يفيد واحدًا من الأقسام إلا بقرينة كالألفاظ المشتركة.

ثم رد على شبهتهم من جهة السنة وقال: (٣)

إن تمسكهم بأخبار آحاد لو كانت صريحة صحيحة لم يثبت بها مثل هذا الأصل وليس شئ منها صريحا. فمنها قوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته لو راجعتيه فقالت بأمرك يا رسول الله؟ فقال لا إنما أنا شافع فقالت:


(١) المصدر السابق ص ٤٢٨.
(٢) المستصفى جـ ١ ص ٤٣٠.
(٣) المصدر السابق ص ٤٣٢.