للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جردت أخلاقهما مما ينبئ عن القوة وخواصها من الصدق والصبر والشجاعة والسمو ذهب الجمال وبقيت الطيبة. إذا صنعت المعروف في صديقك وعدوك كان الفعل كريماً في الحالين، ولكنه في الصديق عادي لأنه بسيط سهل، وفي العدو ممتاز لأنه عظيم شاق؛ وفي هذه القوة التي تقتضيها تلك المشقة كان جماله. إن وفاء السموءل بدروع امرئ القيس فضيلة، ولكن اقترانه بالقوة على تضحيته بابنه جعله آية في جمال الوفاء؛ وإن تنفيذ بروتوس عقوبة الموت على أحد المجرمين عادة مألوفة، ولكن تنفيذه إياها على بنيه الذين ائتمروا بروما مثل نادر لجمال البطولة. وموقف هكطور مع أندروماك، وموقف أسماء بنت أبي بكر مع ابن الزبير لا يقلان جمالاً عن ذينك الموقفين. وسر الجمال في كل ذلك إنما هو تلك القوة الخارقة في تغليب فكرة الواجب على عاطفة البنوة.

كذلك الحال في أعمال الذهن؛ فحل معضلة في الهندسة، واكتشافٌ عظيم في الطبيعة، واختراع عجيب في الميكانيكا، ونظام محكم الوضع في التشريع، وقطعة قوية التفكير والتصوير في الأدب، كلها أعمال جميلة؛ لأنها تستلزم نصيباً موفوراً من الذكاء، وقوة عظيمة في التفكير؛ وشعور المرء بالجمال فيها، موقوف على إدراك القوة التي تقتضيها؛ فالعامي أمام الأحرف الهجائية، والتلميذ أمام منطق أرسطو، لا يجدان فيهما من الجمال ما يجده الفيلسوف، لأنه يدرك ما اقتضياه وتضمناه من الذكاء والقوة.

أما في البلاغة والشعر فأبْين خصائص الجمال الذكاء والفرة؛ فتزاحم العواطف، وتكاثر الصور، وتوافر الأفكار؛ ثم اتساع الخواطر بالذهن النير الذي يحييها ويقويها ويستولدها، وغزارة اللغة وخصوبتها وقدرتها على أن تعبر عن العلاقات الجديدة للحياة، أو على أن تفيض من الحرارة والقوة على الحركات المختلفة للنفس، كل أولئك يملأ شعاب القلب بالإعجاب، وذلك الإعجاب الذي نحسه هو عاطفة الجمال.

وشأن الجمال في المادة لا يختلف عن شأنه في الفكر والعاطفة؛ فإنك إذا رحت تبحث في الطبيعة عن الصفة العامة للجمال لم تجدها غير القوة، أو الفرة، أو الذكاء. ففي الحيوان تجد هذه الصفات الثلاث مجتمعة ومتفرقة، ففي جمال الأسد القوة، وفي جمال الطاووس الفرة، وفي جمال الإنسان الذكاء. ولا أقصد ذكاء الإنسان في نفسه، إنما أقصد ذكاء الطبيعة في تهيئته وتثقيفه؛ وذكاء الطبيعة معناه مطابقة طرائقها لصورها، وملاءمة وسائلها

<<  <  ج:
ص:  >  >>