وهل هو إلا من بعض ما يسبَّح الله بذكره؟ وهل يكون إلا آية اتصلت بالآيات التي يراها اتصالَ الوجود بعضه ببعض؟
وأنا ما يكاد ينقضي عجبي من قوله تعالى:(لنٌرِيه من آياتنا) مع أن الألفاظ كما ترى مكشوفة واضحة، يخيَّل إليك أن ليس وراءها شئ، ووراءها السرُّ الأكبر؛ فإنها بهذه العبارة نصٌّ على إشراف النبي صلى الله عليه وسلم فوق الزمان والمكان يرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه، بخلاف ما لو كانت العبارة (ليرى من آياتنا) فإن هذا يجعله لنفسه في حدود قوتها وحواسها وزمانها ومكانها، فيضطرب الكلام ويتطرق إليه الاعتراض ولا تكون ثمَّ معجزة. وتحويل فعل (الرؤية) من صيغة إلى صيغة كما رأيت هو بعينه إشارة إلى تحويل الرائي من شكل إلى شكل كما ستعرفه، وهذه معجزة أخرى يسجد لها العقل؛ فتبارك الله مُنزِلُ هذا الكلام!
وإذا كان صلى الله عليه وسلم نجما إنسانياً في نوره فلن يأتي هذا إلا من غلبة روحانيته على مادته؛ وإذا غلبت روحانيته كانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالتها في الأخرى؛ فهو في هذه المعجزة أشبه بالهواء المتحرك. فقُل الآن: أُُيعترضُ على الهواء إذا ارتفع بأنه لم يرتفع في طيارة. . .؟
ومن ثمَّ كان الإنسان إذا سما درجةً واحدةً في ثبات قواه الروحية، سما بها درجاتٍ فوق الدنيا وما فيها، وسُخِّرت له المعاني التي تسخِّر غيره من الناس، ونشأت له نواميسُ أخلاقيةٌ غير النواميس التي تتسلط بها الأهواء. ومتى وُجد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه. فالنارُ مثلاً إذا هي تضرَّمت أوجدت الإحراق فيما يحترق، فإن وضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسها وغلب عليها.
وكل معجزة تحدث فهذا هو سبيلُها في إيجاد النواميس الخاصة بها وإبطال النواميس المألوفة، وبهذا يقال إنها خرقت العادة؛ ومن النور نورٌ لا يشفُّ له غيرُ الهواء، ومنه أشعة (رنتجن) التي تشف لها الجدرانُ والحجب، فهذه معجزة في ذاك.
والنبي لا يكون نبياً حتى يكون في إنسانه إنسانٌ آخر بنواميسَ تجعله أقربَ إلى الملائكة في روحانيتها؛ وما ينزل إنسانُه الظاهرُ من الإنسان الباطن فيه إلا منزلةَ من يتلقى ممن يُعطي. فذاك الباطنُ هو للحقائق التي لا تحملها الدنيا، وهذا الظاهر لما يمكن أن يبلغ إليه