هكذا كان علي مبارك باشا. فانظر إذن وتخيل ما تكون عليه دار أسعدها الله بسكنى رجل الواجب.
كان عهده نادر المقاهي والسوامر والملاهي؛ وكانت الدور العامرة سواء في العواصم أو في الريف بدورها في صيانة الأخلاق وتكوين الجيل، والعلماء وقت ذاك قليل، وعلي مبارك بين القليل درة لامعة.
دار كانت بالوافدين والساعين إلى العلم أكثر ازدحاما مما ترى اليوم في جامعة أو في سينما، لكل فريق دور، والأدوار متعددة تنتهي بآخر السهرة من الليل لاختلاف أوقات الفضاء لصاحب الدار أو للوافدين.
دار طالما عمرت بصالح الحديث وبعدت بنازليها عن اللغو، فصفوة العلماء يبحثون ويباحثون، وللأدباء فيها نصيب كبير، وللطلاب النصيب الأوفر.
تزين الدار مكتبة جامعة، نصيب الرجل منها كنصيب أي واحد من قاصديه، وعليه هو القوامة على تنسيقها وحفظها، بل عليه أن يختار لكل ما يلائمه، يبذل من الكتب والمراجع كما يفيض من محفوظه وتجاريبه؛ وهل يستطيع علي مبارك إلا أن يكون واحداً في كل تصرفاته وفي روحاته وغدواته يقوده الواجب، وسيرته التماس النفع للبلاد؟
ولقد أعلم أن المرحوم (مصطفى كامل باشا) الذي ما زالت البلاد تعتز في ظل ما خلف إلى اليوم ما أحسن المحسن وما أساء المسيء، كان في شطر كبير من تكوينه العلمي أكبر حسنات تلك الدار، كما كان صاحب الدار أكثر الناس إعزازا للنجباء من أبناء البلاد، فمن نزح إلى أوربا يكمل تعلمه، لا يني في البحث عنه في العطلة الصيفية وفي عودته إلى الوطن، ولا تلبث الحلقات أن تعقد من أولئك الأنجاب في تلك الدار التي ازدهرت وقتاً ما فازدهرت بها حديقة العرفان وكللت جبين البلاد.
كانت مهمة الدار في أفق العلم مهمة الجامعات، فهي سيطرة رفيقة على تنظيم الثقافة وتوزيعها على قدر المختلفين إليها، وكانت فيما يمس الذين أكملوا دراستهم واسطة العقد، ووسيلة التعارف وأداة الوصل، كما كانت للنازحين في طلب العلم مرداً إلى عوارف الوطن، وجميل المدرسة الأولى، وخير مقرب بين الثقافتين، وخير قوام على تطبيق المعلومات وتهذيبها وصبغها بما يناسب صبغة البلاد.