للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وسط الأعشاب على ضوء القمر.

كانت الذئاب تشبه الراقصين بحركاتها، تلعب في صمت ورزانة عالمة أن على قيد خطوتين منها عدوها الإنسان، مضطجعا بين جدران بيته لم يأخذ النوم بمعاقد أجفانه بعد.

وكان الذئب الأب واقفاً على بعد أمام الشجرة وزوجه مستريحة كصنم المرمر الذي عبده الرومان ومنه انحدر روموس ورومولوس.

وأقعى الذئب ومخالبه غائصة في الرمل، حين علم أنه هالك لا محالة، لأن عدوه باغته وملك عليه سبيله، وامسك بفمه الملتهب عنق أجرأ كلابنا، ولم يحول عنه فكيه الحديديين على رغم طلقاتنا النارية التي اخترقت جلده، وعلى رغم مدانا الحادة التي مزقت أحشاءه، ولكنه لما أحس بأن فريسته فارقت الحياة قبل أن يفارقها هو، أفلته من فكيه، ونظر إلينا مرة وأتبعها أخرى إلى جسمه فرأى المدى غارقة في أحشائه، ورأى نفسه سابحا في بحر دمائه، تحيط به البنادق، فحدق فينا ثانية واضطجع وهو يلعق ذنبه بفمه، ويلقف نزيف الدم من كلومه، ودون أن يجرب أو يبحث كيف يموت، أغمض عينيه الكبيرتين ومات دون أن يصرخ صرخة واحدة. . .

أسندت جبهتي حينذاك إلى بندقيتي واستسلمت للأفكار فلم أجد سبيلا إلى متابعة تلك الصور المريرة التي سيصبح عليها أولاده الثلاثة، وتصورت حال الأم وقد أرادت أن تشارك زوجها في حمل عبء هذه التجربة الخطرة، ولكن واجبها يقضي بان تنقذ أولادها، وأن تعلمهن كيف يتحملن الجوع، ويصبرن على ملاقاة الموت، وأن تحذرهن دخول المدن لئلا يخدعن بالعهد الذي قطعة الإنسان للحيوان، هذا الحيوان الذي يجري أمامه في الصيد، ويخدمه. . كل ذلك ليؤويه وهو سيد السهل والجبل. .

وا أسفاه! لقد فكرت كثيراً في معنى عظمة هذا الاسم الذي يتحلى به بنو الإنسان، وعدت إلى نفسي خجلاً أتهم الإنسان بالضعف والجبن.

أنت وحدك أيها الحيوان علمت كيف يجب أن نغادر الحياة وأوزارها، فليس فيما نعمله في الحياة الدنيا، وفيما نتركه عليها ما يستحق الذكر الا الصمت. هو العظمة، وكل ما سواه ضعف.

آه!. . لقد فهمت معنى نظرتك أيها المسافر المستوحش لأنها نفذت إلى أعماق فؤادي قائلة:

<<  <  ج:
ص:  >  >>