إذا رأت الجنود عائدة إلى مستقرها بخطى مطمئنة فرحة، قل لها لا تبك، ولا تعول بل لتنظر إليهم بفخر وزهو لأن أخاها كان جنديا مثلهم، ولم يكن يهاب الردى. وإذا تقدم إليها أحد الرفاق من الجند يخطب ودها فاسألها باسمي أن تنصت إليه، لا آسفة ولا مانعة: ولتعلق ذلك السيف القديم في موضعه، سيف أبي وسيفي حبا في بنجن القديمة - بنجن الغالية على ضفاف الرين.
وثمت فتاة أخرى ليست بأخت، صحبتها في الأيام السعيد السالفة، ستعرفها من ذلك الحبور الذي يتلألأ في عينيها، بريئة لم يمسها العار، متهكمة يحلو لها أن تهزأ وتسخر. غير أني أيها الصديق أخاف على أشد القلوب جذلاً من أن يثقلها الحزن.
قص عليها حديث الليلة الأخيرة من حياتي، لأنني سأموت قبل طلوع القمر. ستذهب من جسدي الآلام وتخرج روحي من السجن. كأنني أحلم بها وأنا واقف معها نشاهد الشمس وهي تغرب وراء تلال بنجن المكسوة بالكروم - بنجن الجميلة على نهر الرين.
إني أرى النهر الأزرق يتدفق ماؤه، واسمع أو يخيل إليّ أني اسمع: أناشيد الألمان التي كنا نغنيها في صوت متناسق عذب فنتردد بين النهر والسهول المنحدرة في جوف الليل الصامت الهادئ. إني أرى عينيها محدقتين فيّ، ضاحكتين زرقاوين، وكأنني أسير إلى جانبها، في تلك الطرق المحببة إليّ، تلك الطرق التي أذكرها بالإجلال والتقديس، وأحس بيدها الصغيرة آمنة في يدي. ولكنا لن نلتقي مرة أخرى في بنجن - في بنجن العزيزة على ضفاف الرين
أخذ صوته الأجش يضعف ويفنى، وصارت قبضته كقبضة الطفل وارتسمت في عينيه أشباح الموت، ثم تنهد وامسك عن القول.
فمال عليه صديقه لينهضه؛ ولكن سراج حياته كان قد خبا.
لقد مات الجندي المسكين في أرض نائية عن وطنه. عندئذ طلع القمر على مهل واطلّ على الكون وعلى الرمال المخضبة بالدماء إثر المعركة، وعلى الجثث المتناثرة (المبعثرة).
وفي هدوء، أرسل أشعته الشاحبة على ذلك المنظر المفزع. كما يرسلها على بنجن البعيدة - بنجن الجميلة على نهر الرين.