إلى معدة مسحوتة هائلة لا تكف عن القضم، ولا تعيا عن الهضم، ولا ترسل الميول والعواطف إلا في نواحي المنفعة. أين كان ذلك الضمير الحر حين رجفت باسمه الرجفة الكبرى، وأصاخت إلى صوته الهدنة العظمى، ثم جلس على أقدار الشعوب لويد جورج وكليمنصو وويلسن، وأيديهم على منضدة الصلح فوق أعواد الزيتون وأغصان الغار، يتقاسمون الحقوق الممزقة، ويتهادون الحريات المسلوبة، ويقيمون أنفسهم أوصياء على فرائس اقتطعوها، ثم عجزوا أن يبلعوها، فقدموها إلى الوصي كما تقدم الشاة إلى الأفعوان، يزدردها في سكون،؟ ويهتضمها على مهل أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر حين تجاوبت بالأنين ضحايا السلام في تركية ومصر وفلسطين وسوريا والعراق؟ تستغيث بالولاء للحلفاء فلا تغاث، وتُلوِّح بالوثائق والوعود فلا تبالَي، وما ذنبها أنها ضعيفة، ففيهم أضعف منها وإنما ذنبها أنها مسلمة؟ أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر وصرخات مصر الشهيدة تتعاقب على أسماع المدينة من غير فترة، فتمزق أغلفة الأذهان بالحجة، وتلمس لفائف القلوب بالرجاء، ثم لا ترتد أصداؤها إلا بالخيبة؟ أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر والوعود الستون بالجلاء تتساقط من فوق المنبر الدستوري العريق تساقط الشهب، يخطف البصر سناها في جو السماء، ثم تكون حجارة باردة على الأرض؟ هؤلاء أبناؤنا الأعزة يا مسيو فكتور كما سمعت هناك ورأى إخوانك هنا: يشترون بأنفسهم الغالية الهتاف للحرية، لعلهم ينبِّهون العامِهَ، فيبصر، ويرشدون المبطل فيُقصر ويُسمعون المخطئ فيصيب. ولكن الطوائر، تئز والبواخر تصفِر، والمصانع تضج، والمناورات الحربية ترعد، والخطب الخداعة تهدر، فكيف تجد الأصوات الرقيقة العذبة سبيلها في هذه الضوضاء العنيفة إلى آذان هي بطبيعتها موقورة عن مثل هذا النغم؟ ولو كان الضمير الإنساني لا يزال حياً لرأى من خلال الحجب، وسمع من وراء الآفاق، ثم وخز النفوس وخزته الإلهية، فيشعر القوي أنه زل، ويدرك الغوي أنه ضل، ويفطن الإنسان أنه إنسان.
لقد كنت أود يا مسيو فكتور أن ينبسط عطفك حتى يشمل أخواناً وجيراناً يعانون من الذكاء الفرنسي مثل ما نعاني من الدهاء الإنجليزي، ولكننا سئمنا الكلام وأنفنا الاسترحام واحتقرنا الحجج.
لقد بلُد الشعور حتى لا يحس ألا ذبابَ السيف، وثقل السمع حتى لا يدرك ألا قصفة المدفع،