ترى في العواصف والبراكين، ولكن الذكاء إذا أعوز في الفن ذهبت عاطفة الجمال فيه بددا بين التنافر والغرابة، إذ الطبيعة مجهولة الأسرار محجوبة المقاصد؛ وقد استراحت عقولنا منذ النشأة إلى أن تلتمس لجهالتها العلل، وتفترض لسفاهتها الحكمة؛ وليس كذلك الفنان، فأنه مسئول أمام العقل عن العلة التي أجهد من أجلها قوته، والغاية التي بدد في سبيلها ثروته. وحسبه من الذكاء ما ينفي عنه العبث؛ فإذا تيسرت له عظمة القوة في ظاهر من النظام، كفاه ذلك في إنشاء الإعجاب واتقاء النقد، لأن القوة والوفرة هما المصدران الأولان لنشأة الجمال في الفن
على أن فكرة القوة تختلف اختلافا شديدا عن فكرة الجهد؛ فكلما قلت الدلائل على هذه، كثرت الدلائل على تلك. فالخفة والظرافة والأناقة والسراح من صفات الجمال، لأنها تظهر من القوة أكثر مما تظهر من الجهد؛ ولكن إنشاء مقامة من الحروف المعجمة أو الحروف المهملة كما صنع الحريري، أو كتابة سورة من القرآن على حبة من الرز كما يصنع الخطاط السوري، عمل لا يحدث في النفس شعور الجمال، لأنه يدل على الجهد أكثر مما يدل على القوة، ويدعو إلى الرثاء أكثر مما يدعو إلى الدهش. وفي التفصيل المحكم من كلام الله، وفي السهل الممتنع من كلام الناس، كل الفروق بين القوة والجهد
كذلك لا يستعمم الفرق بين الوفرة الصناع وبين الزخرف الأخرق؛ فإن سر الإبداع في الوفرة أنها تضع اللون في مظهره، والحسن في جوهره، والمعنى في لفظه، والشيء في مكانه؛ أما الزخرف الأخرق فترف لا ينبئ عن غنى، ورهق لا يسفر عن قدرة، ولجب لا يبلغك من ورائه نغم! هو كل ما يملك الصانع من ثروة نثرها أمام عينيك في غير لباقة ولا تحفظ، ليخفي بالرياء حقيقة العجز، ويدفع بالزور تهمة العوز
إن ما قلته في الريازة ينطبق على الخطابة والموسيقى وسائر الفنون الابتكارية التي تفصح عن قوى كبيرة ووسائل وفيرة. فالخطيب الذي يبلبل الآراء بقوة كلامه، ويسترقّ الأهواء بسحر بيانه، ويملك على الشعب نوازع القلوب فيرسله على رأيه، ويصرفه على إرادته، قد أوتي من القوة في الفن والعبقرية ما يحمل النفوس على الإعجاب بقدرته والانقياد لأمره. كذلك الموسيقي الذي يصبي المشاعر بسحر أنغامه، والشاعر الذي يسبي العقول بقوة أسلوبه وسمو إلهامه، كلاهما يعلن الجمال في قوة الفن التي يفرضها، ووفرة الوسائل