للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

(اللهم هذه قريش قد أتت بخُيلائها تحاول أن تكذب رسولك! اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَدَ في الأرض!) ذلك كان دعاء الرسول أمام العريش ووجهه إلى القبلة، ويداه إلى السماء، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه فيرده الصِّدِّيق ويقول: بعض هذا يا نبي الله فأن ربك منجز وعده! وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل الوعد بالنصر، وجاءت البشرى بالجنة، فغاب المسلمون في إشراق عجيب من الإيمان، لا يرسم في أخيلتهم إلا الحُور، ولا يصور في عيونهم إلا الملائكة؛ وقذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر، وانجاب القَتَم الكثيف عن النور الوامض من ربوع يثرب، وانكشفت المعجزة الإلهية عن انتصار ثلثمائة على قرابة ألف!!

موقعة بدرٍ الكبرى لا تذَكر بخطتها وعدتها ونفقتها وعديدها في تاريخ الحرب، فلعلها في كل ذلك لا تزيد على معركة بين حيين في المدينة؛ إنما تذكر بنتائجها وآثارها في تاريخ السلم، لأنها كانت حكما قاطعاً من أحكام القدَر غيَّر مجرى التاريخ، وعدَّل وجهة الدنيا، ومكَّن للعرب في دَوْرهم أن يبُلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسة العلم

لم يكن النصر فيها ثمرة من ثمار السلاح والكثرة، ولكنه كان ثمرة من ثمار الإيمان والصدق؛ والإيمان الصادق قوة من الله فيها الملائكة والروح، وفيها الأمل والمثَل، وفيها الحب والإيثار، فلا تبالي العَدد ولا ترهب السلاح ولا تعرف الخطر!

بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوة في بدر والقادسية واليرموك؛ وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية الجديبة والعروبة الشتيتة عمرانا طبق الأرض بالخير، وملكا نظَّم الدنيا بالعدل، ودينا ألَّف القلوب بالرحمة

بهذا الشعور القدسي الذي يحس وينهض ويقود، وبهذا اليقين النفسي الذي يجاهد وينتصر ويسود، وقف الشباب المصري الباسل من دخلاء الجيش، موقف البدريين من كفار قريش، يشقون بهتافهم أذن الأصم، ويقرعون باحتجاجهم ضمير المصِرِّ، ويجدعون بثباتهم أنف المستكبر! لا ينكلون أمام الرصاص، ولا يرهبون وحشة السجن، ولا يجزعون عند الفاجعة. وعاطفة الوطنية كعقيدة الدين: فناء في الغيرية، واندماج الجمعية، وتوجيه الأمل

<<  <  ج:
ص:  >  >>