وفي هذه الأثناء لم يغب عن بال أصدقائه؛ ففي عام ١٨٨٠ لم يدر إلا والحكومة تدعوه إلى الحضور إلى برلين ليتعين بها زميلا فوق العادة لمصلحة الصحة الإمبراطورية. وفي منصبه الجديد أعطت له السلطات معملا جميلا، ووفرة كبيرة من الأجهزة لم يكن يحلم بها، ومساعدين، ومالا كافياً فيه غناءٌ عن طلب الرزق، وتمكينٌ له من قضاء ست عشرة ساعة أو ثماني عشرة في اليوم الواحد بين صبغاته وأنابيبه وخنازيره الغينية
وفي هذا الوقت كانت اكتشافات كوخ شاعت في معامل أوربا جميعها، وعبرت المحيط الأطلسي إلى أمريكا، فقام لها أطباؤها وقعدوا، وتحمسوا لها، واتقدوا من جرائها اتقادا؛ ودارت معركة حامية الوطيس واسعة النطاق حول نظرية الجراثيم وبلغت في هذا الأوان أشدها. واتخذ كل طبيب وكل أستاذ في علم الأمراض عرف المكرسكوب وخفاياه، أو خال أنه عرفه وعرف خفاياه، اتخذ عدته وعتاده، وقام بتقفي المكروبات يؤمل اصطياد جديد منها؛ وأخذت تنجلي الأسابيع عن اكتشافات مزعومة فرح الناس لها عن جراثيم خال أصحابها أنها سبب السرطان أو السل أو التيفود. وصرخ صارخ منهم صرخة تردد صداها في القارات الخمس زعم فيها أنه وجد مكروبا واسع الأثر يعطيك من الأمراض على هواك، من التهاب الرئة إلى زكمة الدجاج. وهدأت هذه الصرخة، وتلاشت موجاتها في الهواء، لتَتْبعها أخرى من سخيف آخر يدعي أنه أثبت أن الداء الواحد كالسل مثلا قد تسببه مئات من أنواع مختلفات من المكروبات
ازداد تحمس القوم لفكرة الجراثيم، وزاد تخليطهم فيها، حتى خِيف على اكتشافات كوخ ذاتها أن يضحك الناس منها ضحكهم من هذه الخُزَعْبِلات التي ملأت الكتب والمجلات في هذا السبيل، وأن ينسوها نسيانهم تلك الأباطيل
ولكن قُدّر لأعمال كوخ أن تحيا؛ واليوم صيحة الأمم أقوى في طلب زيادةٍ في المعامل، وزيادة في قنّاص المكروب، وزيادة في أجور البُحّاث الذين يعملون جهدهم في دفع السوء عنا، ولا سبيل إلى التقدم إلا أن يبعث الله لنا رجالا ككوخ ذوي صدق وبصيرة
كان ما كان من هذا الحماس الجاهل المشئوم الذي لا يكون من نتيجته إلا القضاء على علم المكروب وهو وليد ناشئ. ولكن كوخ حفظ اتزانه في وسط هذه الجلبة الضارة، وجلس في هدوء وسكون يتعلم كيف يربي النوع الواحد من المكروب خالصاً من أخلاطه. قال: (أنا