هذا المنظر في نفسك من إحساس وإجلال. . . وفي تلك اللحظة يُؤذن مُؤذن العِشاء، فإذا هم يغادرونك في شعرك وسحرك، ويتسللون إلى حجرة الطعام، راغبين عن لذة لا يعقلونها إلى لذة يفهمونها ويستمرئونها. . . وإن الصخور الصماء لتحس من معانِ ذلك الغروب البديع أكثر مما تحسه أفئدة أصحابك هؤلاء وما هم لعمرك، سوى: دود على عود.
ولقد يكون البحر لكم أول الأمر صديقاً، وبكم رفيقا. ولكنه بعد ذلك قد ضاق بكم ذرعا، فأراد ان يريكم انه مثلكم يا بني آدم، ليس ذا وجه واحد. بل إن له أوجها كثيرة، وقد أراكم من قبل صفحة فيروزية زرقاء، ووجها هادئا، أملس ناعما. كأنه سهل فسيح من مرمر أزرق. وكانت جاريتكم تجري عليه في اعتدال واتزان، لا تهتز ولا تميل وكلكم فرح بذلك مسرور. تحسبون أن الوقت قد طاب وأنكم بنجوة من العذاب. ثم رأى البحر أن يريكم وجهاً من أوجهه الأخرى. فعبس وتجهم، وثار ومار، وتطاير من وجهه الشرار. وانقلب صفاؤه إلى كدر، وهدوءه إلى انفعال، وحلمه إلى مكان، ورزانته إلى رعونة، وعلا موجه من كل جانب، ووثب رذاذه على باخرتكم، ودخل إلى نوافذ حجراتكم، وجعلت السفينة تتمايل من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين ومن الخلف إلى الامام، ثم من الأمام إلى الخلف، سكرى من غير سكر، صرعى من غير صرع.
ولم تك الا لحظة حتى انقلب اطمئنانكم إلى اضطراب، وامتلأت نفوسكم جزعا وقلوبكم هلعا. وانصرفتم عن الطعام والشراب، وعن اللعب والحديث واستحالت رؤوسكم إلى قطعة من صداع واوجاع، وضعفت أرجلكم عن حمل أجسامكم، فارتميتم على سرركم، وأسلمتم أمركم إلى بارئكم.
فيا عجبا! لقد أمعن الإنسان في الإبداع والاختراع، واستحدث كل هذه السفن الهائلة ذات السرعة والفخامة. . . ثم لا يزال ركبها اليوم كما كانوا في عهد عمرو وعمر: دود على عود
تلك أيامكم على ظهرها أيها الصديق. وإني لأرجو لك بعدها سفراً هينا ورحلة ميمونة، وما أجدرك الا تجعلها كلها عبثا ولعبا.