عشرين قرناً بالأوهام الخيالية، وقد يعجب بالكاهن برغم أنه ينطوي على إرادة شريرة، لأن إرادته تستمد شعورها من نفسها، لا تحوك الأوهام حول الهدف الذي تقصده ولا حول الوسائل التي تصطنعها. وأما يستفز غضب نيتشه من العالم المسيحي فهو ذلك المحيط القدسي الذي يحيط به، وذلك المزيج من المكر والغباوة والطهارة الكاذبة التي يتظاهر بها رجال الإيمان. فاستفاق في نتشيه شعوره الوحشي وحبه للطهارتين المادية والروحية، وجرأته في الذهاب وراء أقصى ما أشرف عليه عقله، فثار وتمرد على هذا التدليس كله، ثم انصرف عن هذه الجماعة، وفي قلبه سأم من رجالها الذين غدا الوهم عندهم جزءا من الأجزاء التي لا يتم بدونها الوجود؛ وهم لا يعرفون أنفسهم حين يخدعون ويخادعون وحين يكونون صادقين، يعيشون أسرى أوهامهم حين يريدون أو لا يريدون؛ وأعلن بأن المسيحية هي المسئولة عن تسميمها للبيئة العقلية والأدبية في أوربا.
على أن جهود الكنيسة كلها في مناضلة العلم ذهبت عبثاً، ومقاومتها للعقل البشري انطلقت أدراج الرياح؛ فان في أوربا كثيرين من علماء الطبيعة - على اختلاف مناهجهم ومدارسهم - يعيشون في غير أكناف الدين والإيمان؛ هؤلاء هم أعداء الكاهن. ولكن سائلا يسأل: وما بال عقول هؤلاء لم تضع سداً يمنع تأثير الوهم المسيحي؟ وكيف لم يفلح أصدقاء الطبيعة والحياة والعافية في تحطيم القيم المسيحية؟
كان جواب نتشيه على هذا السؤال جواباً أدبيا، يقول: إن هؤلاء العلماء لا يؤمنون بعلمهم، ومعنى ذلك أنهم لا ينصرفون إلى تبديل المثل الأعلى الديني بمثل أعلى عندهم؛ أو أنهم يؤمنون بعلمهم ويأتون بحل جديد للحياة يستمدون مادته من المثل الأعلى المشيد على الزهد؛ أو أن رجال العلم هم رجال متوسطو الإدراك، عاجزون عن إبداع شريعة جديدة؛ أو أنهم قوم زاهدون محتالون عالمون؛ لا يختلف جوهر مثلهم الأعلى عن مثل الكهان
يشبه نتشيه هذا العالم (المتوسط) بامرأة عجوز لا تلد ولا تنجب. وهو قليل القناعة بنصيبه
ولآن فلننظر في تعريف رجل العلم!
إن رجل العلم يتصل نسبه بذرية بشرية غير شريفة. تنطوي نفسه على خلال ذرية غير شريفة، ذرية لا تأمر ولا تملك السلطة، ولا تغني شيئاً. إنه عامل دائب يدرك بشعوره حاجات قرنائه. إنه وارث أمراض ذرية غير نبيلة، ملك عليه الزهور ومشى لا يتحرى إلا